Anda di halaman 1dari 88

‫الكلمه أقوى من الرصاصه‬

‫(أو التجمع المدني‬


‫السلمي‬
‫للصلح السياسي‬
‫من أعظم الجهاد )‬

‫د‪ .‬أبو بلل عبد الله الحامد‬


‫الستاذ السابق في جامعة المام‪/‬الرياض‬
‫الطبعة الولى‬
‫‪ 1425‬هـ ‪ 2004 -‬م‬

‫مع تعديلت عليها لطبعة ثانية‬

‫‪23/3/1427‬هـ(‪21/4/2006‬م)‬

‫‪1‬‬
2
‫‪ISBN 9953-29-857-2‬‬

‫جميع الحقوق محفوظة للمؤلف‬

‫عي التينة‪ ،‬شارع ساقية النير‪ ،‬بناية الري هاتف‪ 860138 - 785108 - 785107 )1-961( :‬فاكس‪)1-961( :‬‬
‫‪ 786230‬ص‪.‬ب‪ - 5574-13 :‬بيوت ‪ -‬لبنان البيد اللكترون‪ asp@asp.com.lb :‬الوقع على شبكة النترنت‪:‬‬
‫‪http://www.asp.com.lb‬‬

‫(‪785107 )9611‬‬ ‫التنضيد وفرز اللوان‪ :‬أبد غرافيكس‪ ،‬بيوت ‪ -‬هاتف‬


‫(‪786233 )9611‬‬ ‫الطباعة‪ :‬مطابع الدار العربية للعلوم‪ ،‬بيوت ‪ -‬هاتف‬

‫‪3‬‬
‫بسم ال ا لرحمن الر حيم‬

‫[‪]1‬‬
‫آية كريمة‪:‬‬

‫"ولتـــــكن منـــكم أمــــة‬

‫يدعـــــون إلى الخـــــير‬

‫ويأمــرون بالمـــــــعروف‬

‫وينــــهون عن المنـــــكر‪،‬‬

‫وأولئــــك هم المفلــــحون"‬

‫وحديث شريف‪:‬‬

‫"خيــر الجهـــــــاد‬

‫‪4‬‬
‫كـلمـة عــــــــدل‬

‫"عنـد سلطــان جــائـر‬

‫[‪]2‬‬
‫شكر‬
‫أش كر الزملء من المر ين بالمعروف والناه ين عن المن كر‪ ،‬فى مجال حقوق‬
‫الن سان‪ ،‬والمجاهد ين بقول كل مة العدل أمام ال سلطان ‪ ،‬الذ ين زودو ني بملحظات هم‬
‫على هذا الكتيب وأخص بالذكر منهم الدكتور سلمان العودة الذي همش ما لديه من‬
‫ملحظات ‪ ،‬على مسودة الكتيب الولى سنة ‪1414‬هـ ( ‪1993‬م )‪.‬‬

‫]‪[3‬‬

‫المقالة الولى‬
‫الرهبانية الجديدة‬
‫أ – السبب الكبر في ضعف المة‪:‬‬
‫ـي الرض‪ ،‬وأنزل الكتاب‬ ‫ـة فـ‬‫ـان‪ ،‬وجعله خليفـ‬ ‫ـد ل الذي خلق النسـ‬ ‫الحمـ‬
‫والميزان‪ ،‬ليقوم الناس بالقسـط‪ ،‬وصـلى ال على نبينـا محمـد‪ ،‬وعلى آله وصـحبه‪،‬‬
‫الذ ين أقاموا حضارة اليمان‪ ،‬ال تي حل قت بجنا حي الحر ية ال سامية والعدالة‪ ،‬وبه ما‬
‫نشروا السلم رحمة للعالمين‪ ،‬في مشارق الرض ومغاربها‪.‬‬
‫وبعد فما ضعف المسلمون‪ ،‬إل عندما وقعوا في محظورين‪:‬‬
‫الول‪ :‬أن هم جزأوا الد ين فآمنوا ببعضـه وهـو العبادات (المحضـة) الروحيـة‪،‬‬
‫وتركوا بعضه الخر وهو العبادات (غير المحضة) المدنية فحرفوا الدين فوقعوا فى‬
‫‪5‬‬
‫داء المم من" المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضدين " ( الحجر ‪. ) 91-90 :‬‬
‫الثا ني‪ :‬ثم ضع فت في نفو سهم معا ني العبادات الروح ية المنش طة‪ ،‬فلم ت عد‬
‫الصـلة تنهـى عـن فحشاء مدنيـة‪ ،‬ول منكـر اجتماعـي أو سـياسي‪ ،‬وتحولت إلى‬
‫عادات مثبطـة منومـة‪ ،‬وكان الديـن مضمونا روحيا ومدنيا حضاريا حركيا شاملً‪،‬‬
‫فأمسى طقوس مناسك روحية فردية جزئية سلبية‪ ،‬وتلك هي الرهبانية الجديدة‪.‬‬
‫وعندمـا جاء السـلم تمثله المسـلمون الولون‪ ،‬وأدركوا أن اليمان شطران‪:‬‬
‫مناسـك روحيـة ومسـالك مدنيـة‪ ،‬فكانوا نموذجا حضاريا فريدا‪ ،‬كان الديـن منبـع‬
‫سيادتهم في الدن يا‪ ،‬ودل يل سعادتهم في الخرى‪ ،‬وأض حى حافزا للتفوق الحضاري‬
‫الذي به عمارة الدارين‪ ،‬دار الدنيا ودار الخرة معا‪.‬‬
‫ب يد أن جو هر الد ين انط مر عبر المك نة والزم نة‪ ،‬وأ فل كث ير من مضامي نه‬
‫الحضارية‪ ،‬فباتت أشكالً معزولة‪ ،‬ل تحقق عزة في الدنيا‪ ،‬ول نجاة من الهلك في‬
‫الخرة‪ ،‬وتلشـت قوة المـة ومنعتهـا‪ ،‬وصـارت نهبا للطغيان الداخلي والعدوان‬
‫الخارجي‪.‬‬
‫وعبر تأويل نصوص الشريعة المحكمة‪ ،‬برروا الظلم والجهل والتأخر‪ ،‬والفقر‬
‫والذل والمرض‪ ،‬وا ستغلهم الخادعون من طلب الحطام الدنيوي‪ ،‬والمخدوعون من‬
‫أهل الزهد الرهباني السلبي‪ ،‬لتبرير كل واقع فاسد‪ ،‬وكل حادث مهين‪ ،‬فبرروا كل‬
‫عدوان وطغيان‪ .‬و صدق الر سول الكر يم‪« :‬أخوف ما أخاف على أمتـي‪ :‬زلة عالم‪،‬‬
‫وجدال منافق بالقرآن‪ ،‬والئمة المضلين»‪.‬‬
‫]‪[4‬‬
‫ب – البحث عن المخرج‪:‬‬
‫ولن تتحقق للمة عزة ول قوة‪ ،‬إل بعرى الدين المتينة‪ ،‬ول سبيل إلى ذلك إل‬
‫بتحريـك مـا ركـد مـن مياهـه‪ ،‬وإشعال مـا خبـا مـن مصـابيحه‪ ،‬ليعود الديـن توحيدا‬
‫صـحيحا‪ ،‬نقيا مـن ظلمات الشرك الخفـي والجلي‪ ،‬وفقها ملهما للنهوض والرقـي‪،‬‬
‫وينبوعا يغسل أدران أمراض العقول والنفوس والجساد‪ ،‬وروحا يولد طاقات المة‪.‬‬
‫ول يتم ذلك إل بأمرين‪:‬‬
‫الول‪ :‬فقه الدين شاملً‪ ،‬باليمان به كله سواء أكان شعائر مناسك أم شرائط‬
‫معائش‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬ول يتم ذلك إل بتفعيل مفاهيم الدين الراكدة‪ ،‬والتي بقيت مصطلحاتها‬
‫وحرفت مفاهمها لكي تستخدم في نشر قيم الخمول‪.‬‬
‫والخطوة الولى أن يبادر الفقهاء المثقفون مــن علماء الشريعــة خاصــة‪،‬‬
‫‪6‬‬
‫والعلماء والمثقفون من أهل الصلح عامة‪ ،‬الذين يدركون دورهم الريادي الطليعي‬
‫إلى تصـحيح المفاهيـم المغلوطـة‪ ،‬وتحريـك المياه الراكدة‪ ،‬ونصـب القدوة الحسـنة‪،‬‬
‫ووا جب على كل مث قف أن يدلي بعمله وقوله‪ ،‬ووا جب على من ي جد في قوله أو‬
‫عمله نقصا أو خطأً أن يقوم ويسدد‪ .‬وبهذا وذاك نشق الطريق المسدود ونصل إلى‬
‫الهدف المنشود‪.‬‬
‫]‪[5‬‬
‫ج – الصالحات المدنية مؤهل وراثة الرض‬
‫إن القيام بش طر الشريعة المد ني‪ ،‬هو أ ساس بقاء المم والحضارات والدول‪،‬‬
‫وذلك جاء في القرآن الكر يم ر بط ورا ثة الرض بع مل ال صالحات في الرض‪ ،‬أي‬
‫بإقا مة شرطي البيعة في السلم ‪ :‬العدل والشورى الملزمة‪ ،‬من أجل بناء المدي نة‬
‫العادلة الشورية‪.‬‬
‫وكلمـا جاء الصـلح أو الفسـاد مرتبطا بالرض أو بوراثتهـا فإنمـا المقصـود‬
‫الصـلح المدنـي‪ ،‬قال تعالى‪ :‬وعـد ال الذيـن آمنوا منكـم وعملوا الصـالحات‬
‫ليستخلفنّهم في الرض‪ ‬وقال‪ :‬ولقد كتبنا في الزّبور من بعد الذّكر أن الرض يرثها‬
‫صالحون‪ .‬و من يش كل عل يه ف هم كتاب ال المقروء‪ ،‬فليقرأ كتا به الكو ني‪،‬‬
‫‪‬‬ ‫عبادي ال‬
‫فيدرك أن أساس بقاء الحضارات هو القيم المدنية‪.‬‬
‫إن من يتأمل تاريخ المسلمين‪ ،‬يدرك أن أهم سبب في انهيار المة‪ ،‬هو غياب‬
‫أعراف المجتمـع المدنـي‪ .‬ومـن هذا وذاك تعرف مقاصـد السـلم الكـبرى ووسـائل‬
‫تنفيذها‪ ،‬في حفظ أمة ال أفرادا ومجتمعا ودولة‪.‬‬
‫و من يتأ مل تار يخ نهوض الفر نج‪ ،‬يدرك أن أ هم سبب في تفوق هم‪ ،‬هو قوة‬
‫ثلثية المجتمع المدني‪ ،‬بأضلعها الثلثة‪:‬‬
‫الضلع الول ال ساس ‪ :‬منظو مة الق يم‪ ،‬كالحر ية ال سامية والعدالة والشورى‪،‬‬
‫والكرامة والمساواة‪ ،‬والتعددية والجدية والروح العملية إلخ‪ .‬و‬
‫الضلع الثا ني ‪ :‬التجمعات الهل ية الم ستقلة عن الدولة‪ ،‬من نقابات وجمعيات‬
‫وروا بط‪ ،‬ب صفتها تج سيدا ل سلطة ال مة باعتبار ال مة هي (الحا كم الفعلي)‪ ،‬و هو‬
‫الدرى بمصـالحها‪ ،‬وهـي وليـة أمـر نفسـها‪ ( .‬انظـر لتفصـيل ذلك كتيـب ( ثلثيـة‬
‫المجتمع المدني )‪.‬‬
‫الضلع الثالث‪ :‬توزيع عبء الدولة على ثلثة أعمدة بدل من عمود واحد‪ ،‬من‬
‫خلل الفصل بين السلطات وقيام مجلس النواب بمحاسبة ومراقبة الحكومة‪ ،‬وتعزيز‬
‫استقلل القضاء بذلك تتجسد سلطة المة على الحاكم‪ ،‬التي قررها ال فى القرآن‪،‬‬
‫و عبر عن ها المام إ بن تيم ية بعبار ته الشهيرة " ال مة هي المخولة بح فظ الشرع‪،‬‬
‫‪7‬‬
‫وليس الحاكم‪( ،‬انظر تفصيل ذلك فى كتيب (البرهان فى قوامة المة وسيادتها على‬
‫السلطان) ‪.‬‬

‫]‪[6‬‬
‫د ‪ -‬أولوية نشر ثقافة المجتمع المدني‪:‬‬
‫إن المـة السـلمية ولسـيما الشعـب العربـي ل تعانـي اليوم مـن مجرد حكـم‬
‫جـبري كسـروي صـحراوي جائر‪ ،‬يقدمـه الفقهاء الغافلون على أنـه السـلم‪ ،‬أو أن‬
‫السلم يتآلف معه ‪.‬بل إن المر أعظم وأخطر‪ ،‬فهي تعاني من أزمة حضارية‪ ،‬في‬
‫كافة أقطارها ومن التبسيط والتشويه‪ ،‬أن تحدد الزمة بالحكم الجائر وإن كان الحكم‬
‫الصحراوي الجائر أبرز مضاعفات المرض ‪ ،‬فالمة تعاني من أزمة حضارية‪ ،‬أدت‬
‫إلى النهيار الداخلي وإلى هيمنة الجانب على شؤونها‪ ،‬وهذه الزمة تمتد جذورها‬
‫إلى خلل حدث منـذ بضعـة عشـر قرنا‪ ،‬فـي التربيـة الجتماعيـة‪ ،‬ومنهاج التعليـم‬
‫وأهدا فه وو سائله‪ ،‬و في جا نب الترب ية ال سياسية‪ ،‬والح كم الجائر أ حد مظا هر هذه‬
‫الزمة‪.‬‬
‫إن الزمـة التـي أسـقطت القنعـة الزائفـة‪ ،‬وعرت التماثيـل الفارغـة منـذ عام‬
‫‪1411‬هـ ( ‪1990‬م ) إنما هي إعلن عن إخفاق منهج التربية الجتماعية‪ ،‬وعندما‬
‫ركدت مناهـج التعليـم عامـة والدينـي خاصـة‪ ،‬فانحصـر العلم فـي كثرة المؤلفات‬
‫وتحصيل المعلومات وانفصل عن العمل‪.‬‬
‫ومـن أجـل الخروج مـن هذه الزمـة ل بدّ مـن تجديـد مفاهيـم التعليـم عامـة‬
‫والديني خاصة‪ ،‬من أجل ذلك ينبغي ربط كشف ما طمست الصياغة العباسية للثقافة‬
‫ال سلمية من ق يم المدن ية‪ .‬إن ال مة ل تعا ني من ن قص ك مي في برا مج الترب ية‬
‫والتعليم‪ ،‬وإنما تعاني من فقر في الفكار والمفاهيم‪.‬‬
‫وأول هذه المفاهيـم ثلثيـة المجتمـع المدنـي مـن أجـل ذلك ل ب ّد للمهتميـن‬
‫بالدعوة والصلح‪ ،‬من نشر ثقافة المجتمع المدني‪.‬‬
‫وأسـأل ال أن يوفـق الجميـع إلى الصـواب‪ ،‬وأن يجنبنـا الزبـد والخطـل‪ ،‬فـي‬
‫الف كر والقول والع مل‪ ،‬وأن ين فع بهذا الكت يب وأن يجعله هذا الع مل خال صا لوج هه‬
‫الكريم وأن يقبله بفضله وإحسانه‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫]‪[7‬‬

‫المقالة الثانية‬
‫لماذا اعتبر السلم الصلح‬
‫السياسي السلمي‬

‫جهادا ؟‬
‫أ – غفلة المنتسبين للشريعة عن جانبها المدني‪:‬‬
‫مـن يتأمـل النصـوص الشرعيـة‪ ،‬يدرك أن الشريعـة السـلمية‪ ،‬ل يمكـن أن‬
‫توصل الناس إلى سعادة الدنيا والخرة معا‪ ،‬آفرادا وجماعات ومجتمعاتبها إل على‬
‫محورين‪:‬‬
‫المحور الرو حي‪ :‬شعائر المنا سك كإقا مة ال صلة وال صوم وال حج‪ .‬والمحور‬
‫المدنـي‪ :‬إقامـة الدولة الشوريـة العادلة‪ ،‬ومـا فيهـا مـن معائش ومسـاكن ومراكـب‪،‬‬
‫ونحوها من ما يحقق (الرقي المدني)‪.‬‬
‫إن فريضـة المـر بالمعروف ليـس مقصـورة على شعائر المناسـك‪ ،‬كإشادة‬
‫القباب على القبور‪ ،‬وترك ال صلة وال صوم‪ .‬ل يس من ال سنة أن يح صر المحت سب‬
‫جهده في إنكار المنكرات في التوحيد والمناسك‪ ،‬ويتشدد في ذلك حتى يغلو ويتنطع‬
‫ــ ل سـيما ــ وهـي حقوق ل مبناهـا على الظاهـر‪ ،‬وعلى السـتر ودرء العقوبـة‬
‫بالشبهة‪ ،‬وعلى العفو من ال والمغفرة‪ ،‬وال ل يعاقب عليها إل بعد إقامة الحجة‪،‬‬
‫كما صرح القرآن فى قوله تعالى‪ :‬وما كنا معذبين حتى نبعث رسولً‪ ،‬وهي من ما‬
‫ل تترتب عليه عقوبة دنيوية‪ ،‬وهي من ما ل تختل به حياة المة والدولة‪.‬‬
‫و في مقا بل هذا التشدد ت ساهل شن يع فظ يع‪ ،‬في إقا مة ش طر الشري عة الد ين‬
‫المدنـي‪ ،‬الذي بـه تحرس العدالة الجتماعيـة‪ ،‬ول قوام للمـة دون عدل ومسـاواة‬
‫وحر ية سامية وكرا مة‪ ،‬وأخلق قوة اجتماع ية ومعرف ية وعمل ية‪ .‬ول عدالة من‬
‫دون شورى‪ ،‬ول شورى مـن دون تجمعات أهليـة‪ ،‬ول تجمعات مـن دون حريات‬
‫مدنية‪.‬‬
‫إن من ض عف الفقه أن تجد عا مة المتدين ين والمتخ صصين بعلوم الشري عة‪،‬‬
‫يقومون بفصـل فظيـع بيـن ركنـي الشريعـة الروحـي الخاص والمدنـي العام‪ ،‬فقـد‬
‫‪9‬‬
‫يقيمون الدن يا ويقعدون ها‪ ،‬من أ جل موضوع غ يبي اجتهادي‪ ،‬لي ست المعر كة ف يه‬
‫بيـن حـق وباطـل‪ ،‬إنمـا هـي بيـن راجـح ومرجوح‪ ،‬كصـراعهم فـي مسـألة القرآن‬
‫مخلوق أم غيـر مخلوق‪ ،‬ويتركون شطـر الشريعـة المدنـي‪ ،‬وكأنـه خارج إطار‬
‫الشريعـة‪ ،‬وهـم بذلك يمارسـون علمانيـة مقنعـة‪ ،‬بـل إنهـم علمانيون أكثـر مـن‬
‫العلمانيين أنفسهم‪.‬‬
‫فتلعـب السـلطان بأموال المـة‪ ،‬وإنفاقهـا على الشهوات والمحاسـيب‪ ،‬أمـر‬
‫يؤدي إلى انهيار القتصـاد‪ ،‬وتحول المـة مـن أمـة غنيـة‪ ،‬إلى فقيرة مسـتجدية‪،‬‬
‫تفرض علي ها الدول ما تفرض‪ ،‬وذلك أ مر يؤدي إلى الف قر‪ ،‬وكاد الف قر يكون كفرا‪،‬‬
‫وحفظ مال المة أحد فروض الدين العامة‪.‬‬
‫وال ستبداد بالدارة والقيادة‪ ،‬و ما ف يه من رشوة ومح سوبية‪ ،‬وتول ية غ ير‬
‫الكفياء‪ ،‬أمــر يؤدي إلى الفســاد الداري يؤدي إلى انهيار الدولة بالفوضــى‬
‫والشقاق‪ ،‬وصـلح الدارة أحـد فروض الديـن العامـة‪ ،‬ول صـلح للقضاء إل‬
‫با ستقلله التام عن ال سلطة التنفيذ ية‪ ،‬وبإعداد ثقا فة قضائ ية‪ ،‬تم كن القضاة من‬
‫حلول المشكلت‪ .‬فصلح القضاء أحد فروض الدين العامة‪.‬‬
‫وشيوع منهاج التربيـة الرخوة المتخلفـة أو العلمانيـة‪ ،‬فـي مجال التعليـم‬
‫والعلم‪ ،‬ليـس أقـل ضررا مـن مـا قبله‪ ،‬وفيـه ضياع العقول والعراض‪ ،‬فصـلح‬
‫التربية والتعليم خاصة والتربية الجتماعية عامة‪ ،‬أحد فروض الدين العامة‪.‬‬

‫]‪[8‬‬
‫ب – لماذا ركز الرسول الجهاد على الشق المدني‬
‫السياسي؟‬
‫ومن أجل ذلك جاءت كلمة الجهاد مركزة على شطر الشريعة المدني‪ .‬وواضح‬
‫من الحاديث الشريفة هذا التركيز‪ ،‬ومن الدلة على ذلك‪ :‬أن النبي صلى ال عليه‬
‫و سلم فى حديث الجهاد المدني " خير الجهاد كلمة حق ع ند سلطان جائر " ( رواه‬
‫أبو داوود والترمذي وابن ماجة والنسائي وأحمد وصححه اللباني ) وصف النبي‬
‫المام بالجور الذي يجب جهاده‪ ،‬والجائر يقابل العادل‪ ،‬وهما صفتان مدنيتان‪.‬‬
‫ول جرم أن لكل عامل صفة بارزة‪ ،‬فالصفة البارزة في إمام المسجد هي فقه‬
‫الصـلة والورع‪ ،‬والصـفة البارزة فـي سـائق السـيارة‪ ،‬هـي مهارة القيادة وحدة‬
‫البصر‪.‬‬
‫والصفة البارزة في الحاكم هي العدالة أو الجور‪ ،‬فلم يصفه النبي بالفسق ول‬
‫‪10‬‬
‫بالفجور ول بترك ال صلة أو ال صيام ونحو ها من شعائر الد ين الروح ية بل و صفه‬
‫بالجور‪ ،‬وهذا يشيـر إلى أن الحاكـم مهمـا صـام وصـلّى‪ ،‬وبنـى المسـاجد‪ ،‬وطبـع‬
‫المصاحف‪ ،‬ل ينبغي أن تشفع له هذه المور إن تهاون في وظيفته الساسية‪ :‬وهي‬
‫إقامة فريضتي العدالة والشورى‪.‬‬
‫ولذلك جاء وصـف الكلمـة فـي بعـض الروايات (بالعدل)‪ ،‬والعدل فـي هذه‬
‫الروا ية‪ ،‬يخ صص ما ورد في الروايات الخرى (بكل مة حق) أو (كل مة خ ير)‪ ،‬لن‬
‫الحاكـم فـي غالب المور لن يقتـل مـن أمره بالصـلة أو بالعفـة ونحوهـا‪ ،‬لن غالب‬
‫الحكام يتظاهرون أمام الناس بكافـة محاسـن الخلق‪ ،‬ويسـتطيعون أن يخفوا كـل‬
‫الموبقات المدنية من زنا وشرب خمور والروحية من ترك صيام وسلم‪ ،‬إل مسألتي‬
‫العدالة والشورى‪ ،‬ولنهما ليستا مسألة شخصية‪ ،‬يغلق عليها النسان داره‪ ،‬بل هي‬
‫في كل شارع وحي ومدينة‪.‬‬
‫]‪[9‬‬
‫ج – الغفلة عن مقاصد الشريعة أفظع البدع‪:‬‬
‫و ما أ صيبت ال مة في كيان ها‪ ،‬إل عند ما أوّلت الن صوص الدين ية ال صريحة‪،‬‬
‫واعتمدت على غير الصريحة‪ ،‬ونشرت الحاديث الموضوعة والضعيفة التي تنامى‬
‫نباتها فى ظلل كهوف الحكم الصحراوي الكسروي وتركت النصوص القطعية‪ ،‬فعم‬
‫الجهل بشطر العقيدة المدني‪ :‬إقامة الدولة العادلة الشورية‪.‬‬
‫ف سكت الناس عن ال مر بالعدالة والن هي عن الظلم وال ستبداد‪ ،‬وأخذوا من‬
‫الديـن مـا يوافـق أهواءهـم ويجنبهـم مشقـة الصـبر‪ ،‬وظنوا أن المـر بالعدالة‬
‫والشورى من فروع الملة‪ ،‬بل أسقطوا مسألة المامة كلها من العقيدة واعتبروها‬
‫من فروع الدين‪ ،‬ونسوا أنه عمود شق الشريعة الثاني‪ ،‬فمن تركه فقد أخلّ بالركن‬
‫الول‪ :‬تحقيـق التوحيـد والقيام بالصـلة ونحوه‪ ،‬وشجرة الشريعـة أصـلها التوحيـد‬
‫وهي ذات فرعين روحي ومدني‪ ،‬فمن أخلّ بشطر‪ ،‬فقد أخلّ بالخر‪.‬‬
‫وال سلم ع قد منظوم‪ ،‬ل يؤ خذ م نه جا نب دون جا نب‪ ،‬إل في حالة الدعوة‬
‫المتدرجـة إليـه‪ ،‬أمـا السـتمرار على ذلك فهـو جهـل بالشريعـة‪ ،‬يؤدي إلى شيوع‬
‫الفسـاد وخراب البلد‪ ،‬كمـا قال المام الشاطـبي‪ ،‬مؤكدا على أن ترك ضـم أطراف‬
‫الشريعـة إلى بعـض‪ ،‬هـو أسـباب الوقوع فـي الزيـغ والغلط "ومدار الغلط فـي هذا‬
‫الفصل إنما هو على حرف واحد‪ ،‬وهو الجهل بمقاصد الشرع‪ ،‬وعدم ضم أطرافه‬
‫بعضها ببعض"‪.‬‬
‫"فإن مأ خذ الدلة ع ند الئ مة الرا سخين‪ ،‬إن ما هو على أن تؤ خذ الشري عة‬
‫كال صورة الواحدة‪ ،‬بح سب ما تث بت به كليات ها وأجزاؤ ها المترت بة علي ها‪ ،‬وعام ها‬
‫‪11‬‬
‫المتر تب على خا صها‪ ،‬ومطلق ها المحمول على مقيد ها‪ ،‬ومجمل ها المف سر بمبين ها‪،‬‬
‫إلى ما سوى ذلك من مناحيها"‪.‬‬
‫"وما مثلها إل مثل النسان الصحيح السوي‪ ،‬فكما أن النسان ل يكون إنسانا؛‬
‫باليد وحدها‪ ،‬ول بالرجل وحدها‪ ،‬ول بالرأس وحده‪ ،‬ول باللسان وحده‪ ،‬بل بجملته‬
‫ال تي سمي بها إن سانا‪ ،‬وكذلك الشري عة ل يطلب منها الحا كم على حقي قة الستنباط‬
‫إل بجملت ها‪ ،‬من أي دل يل كان‪ ،‬وإن ظ هر لبادئ الرأي ن طق ذلك الدل يل‪ ،‬فإن ما هو‬
‫توهمي ل حقيقي"‪.‬‬
‫فشأن الرا سخين في العلم‪ ،‬ت صور الشري عة صورة واحدة‪ ،‬يخدم بعض ها بعضا‪،‬‬
‫كأعضاء الن سان إذا صورت صورة متحدة‪ .‬وشأن متتب عي المتشابهات أ خذ دل يل ما‪،‬‬
‫أي دليـل كان عفوا أو أخذا أوليـا‪ ،‬وإن كان ثـم مـا يعارضـه مـن كلي أو جزئي فكان‬
‫العضو الواحد ل يعطي في مفهوم أحكام الشريعة حكما قطعيا‪ ،‬فمتتبعه متب ُع متشابه‪،‬‬
‫ول يتبعه إل من قلبه زيغ‪ ،‬كما شهد به ال‪ ،‬ومن أصدق من ال حديثًا‪( ‬النساء‪)87 :‬‬
‫(العتصام‪.)312/1 :‬‬
‫جاهل بالدين بل مبتدع بدعة كبرى؛ من قصر جهده على العناية بقيم السلم‬
‫الروحيـة الخاصـة‪ :‬المناسـك‪ ،‬وترك قيـم السـلم العامـة المدنيـة‪ :‬شرائط المعاش‬
‫الدارة التـي أسـاسها أمران‪ :‬العدالة الجتماعيـة‪ ،‬والشورى فـى البيـت والمدرسـة‬
‫والديوان‪.‬‬
‫ل قد أ خذ بجا نب من الد ين وترك ال خر‪ .‬فليحذر المؤ من من أن ي قع في‬
‫الضلل وهـو ل يدري‪ ،‬فيكون مـن الذيـن يضلون الناس بغيـر علم‪ ،‬وإن كانوا مـن‬
‫الز هد والخلص بمكان مك ين‪ ،‬وإن كانوا من العلم والح فظ من المكثر ين فال قد‬
‫حذرنـا بأن المـم السـابقة‪ ،‬لم تهلك بسـبب الجهـل فحسـب‪ ،‬بـل إن علم الشقشقـة‬
‫والثرثرة والرهبنة‪ ،‬من أسباب الضلل " فما اختلفوا إل من بعد ما جاءهم العلم "‪.‬‬
‫وقد بين الرسول صلى ال عليه وسلم أن الضلل نوعين وحذر منهما معا‪ :‬ضلل‬
‫روحي وضلل مدني‪.‬‬
‫وحذر من الول‪:‬الروحي في ما رواه أبو هريرة " لتتبعن سنن من كان قبلكم‬
‫شبرا بشبر وذراعأ بذراع " فساله الصحابة ‪ :‬يا رسول ال اليهود والنصارى ‪ ،‬قال‬
‫‪ :‬فمن " ( رواه مسلم ) ‪.‬‬
‫وحذر من الثاني المدني ‪ :‬فى ما رواه أبو سعيد الخدري " لتتبعن سنن من‬
‫كان قبل كم ‪ ،‬شبرا ب شبر وذرا عا بذراع " ف ساله ال صحابة ‪ :‬فارس والروم ؟ قال ‪:‬‬
‫ف من ؟ " ( رواه البخاري ) ‪ ،‬قال ا بن ح جر " ح يث قال " فارس والروم " كان هناك‬
‫قرينة تتعلق بالحكم بين الناس وسياسة الرعية ‪ ،‬وحيث قال اليهود والنصارى كان‬
‫هناك قرينة تتعلق بأمور الديانات ؛ أصولها وفروعها "‬
‫وهذا الحديث من السس التي بنيت عليها ثنائية الروحي والمدني (فى بحث‬
‫‪12‬‬
‫نحو صياغة للعقيدة تصد عنا تحديات العلمنة والفرنجة والعولمة والهيمنة الجنبية‬
‫من كتاب‪:‬جناحان حلق بهما السلم)‪.‬‬
‫ل عن أن ي سعى أو يحلق في‬ ‫لن لل سلم قدم ين لن يم شي على الرض فض ً‬
‫الفاق إذا شل أحدهما‪ ،‬ويعرج إذا مرض أحده ما‪ ،‬فلنتذكّر وع يد ال الذين حصروا‬
‫الديـن فـي جانـب‪ ،‬وتركوا مـا عداه ‪‬أفتؤمنون ببعـض الكتاب وتكفرون ببعـض فمـا‬
‫جزاء من يف عل ذلك من كم إل خزي في الحياة الدن يا ويوم القيا مة يردون إلى أ شد‬
‫تعملون [البقرة‪.]85 :‬‬
‫‪‬‬ ‫العذاب وما ال بغافل عما‬
‫أجـل إنـه خزي فـي الحياة الدنيـا قبـل الخرة‪ ،‬أصـاب أمتنـا السـلمية عامـة‬
‫والعرب ية خا صة‪ :‬جبر وخوف جور ومرض وج هل وف قر وتفرق وذل‪ .‬وذلك جزاء‬
‫مـن أخلّ بشطـر الشريعـة المدنـي جانـب العدالة والشورى‪ ،‬فمـن همشـه فـي فتاواه‬
‫ومؤلفاته فقد أخلّ بثاني اثنين من أصول الدين‪ ،‬إنه الخزي الفظيع‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫]‪[10‬‬

‫المقالة الثالثة‬

‫جهاد السلم ضد الطغيان‬


‫الداخلي‬

‫وجهاد الحسام ضد العدوان‬


‫الخارجي‬
‫أ – الجهاد العسكري في السلم إنما هو تجاه‬
‫الطغيان والعدوان ل تجاه الكفران؟‬
‫استقر مفهوم الجهاد في أذهاننا نحن المسلمين مرتبطا بأمرين‪ :‬الحرب والكفار‪،‬‬
‫وظل هذا المفهوم – وحده – راسخا في ذاكرة المة‪ ،‬عبر الزمنة والجيال‪ ،‬حتى كاد‬
‫ينحصر مفهوم الجهاد بحرب الكفار وهذا المفهوم فيه نظر من جهتين‪:‬‬
‫الول‪ :‬القرآن الكر يم‪ ،‬لم يأ مر بحرب الكفار ابتداءًا‪ ،‬إن ما أ مر بحرب هم دفاعا‪،‬‬
‫فالجهاد في ال سلم دفاع عدوان‪ ،‬ك ما قرر الئ مة الثل ثة مالك وأ بو حني فة وأح مد‪،‬‬
‫ووافقهم الشافعي أيضا في أحد قوليه‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أن جهاد البتداء خاص بالدول القامعة التي تلزم مواطنيها الكفر‪ ،‬ول‬
‫تسمح لدعاة السلم بالدعوة إلى ال‪ ،‬فهو إذن ليس لمحاربة الكفران‪ ،‬بل لمحاربة‬
‫دول دكتاتورية قامعة ظالمة‪.‬‬
‫ونسـي المسـلمون الجهاد المدنـي الداخلي‪ ،‬وصـرف كثيـر مـن الناس معنـى‬
‫الجهاد لمحاربـة العدوان الخارجـي‪ ،‬فألفوا أن يقاوموا عدوان النصـارى الصـليبي‬
‫تحـت رايـة الجهاد‪ ،‬ولكـن المسـلمين إذ نجحوا أحيانا فـي صـد العدوان الخارجـي‪،‬‬
‫أخفقوا فـي أغلب الحيان فـي لجـم الختلل الداخلي‪ ،‬وفشلوا فـي علج النهيار‬
‫والفوضـى‪ ،‬لحصـر قيـم المـر بالمعروف والنهـي عـن المنكـر‪ ،‬بالمور الروحيـة‬
‫وتركيزهـم على الجانـب الخلقـي الذي ل يزعـج السـلطان الجائر‪ .‬وتركهـم مسـألة‬
‫شرطي البيعة الشرعية ‪ :‬العدل والشورى‪.‬‬
‫‪14‬‬
‫ولذلك ينبغـي أن نتوقـف هنيهـة‪ ،‬وأن نتأمـل أفكارنـا الشائعـة‪ ،‬وأن نقومهـا‬
‫بميزان حقائق الشريعة‪ ،‬فإذا كنا ل نعرف آيات ال المنزلة فى القرآن‪ ،‬فلنقرأ آياته‬
‫المج سدة فى الكوان‪ .‬حقائق علوم الن سان والجتماع والطبي عة‪ ،‬و سنكتشف عندئذ‬
‫أخطاءًا شائعة‪:‬‬
‫أولها‪ :‬الزعم بأن الجهاد إنما هو ضد الكفر‪ ،‬ل ضد العدوان‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬قصر الجهاد على الحرب الخارجية‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬إهمال فريضة الجهاد المدني السلمي في سبيل إقامة العدل الجتماعي‬
‫والقضائي‪ ،‬والقتصادي‪ ،‬والسياسي‪ ،‬فى سبيل بناء الدولة الشورية العادلة‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬تركيز الجهاد على الشق العسكري وتهميش المدني‪.‬‬
‫والذي يتأمل النصوص الشرعية يجد أن للجهاد معاني عديدة‪ :‬منها المجازي‬
‫والحقيقي‪ ،‬واللغوي والشرعي‪ ،‬والعام والخاص‪ ،‬يجمعها أنه يطلق على كل مجاهدة‬
‫للذات أو للخرين‪ ،‬يظهر فيها عنصر المشقة والمعاناة‪.‬‬
‫لكن الجهاد الشرعي بالمعنى الخاص له ثلثة شروط‪:‬‬
‫الول ازدياد عن صر المش قة والذى‪ ،‬ح تى ي صبح مخاطرة أو مغامرة‪ ،‬تعرّض‬
‫حياة النسان للهلك‪ ،‬أو ما له للمصادرة‪ ،‬أو أمنه للخوف‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أن يكون ذلك في سبيل المصلحة العامة للمسلمين‪.‬‬
‫الثالث‪:‬التجمع والتكتل‪.‬‬
‫فالجهاد بالمعنى الشرعي الخاص‪ ،‬ل ينطبق إل على نوعين‪:‬‬
‫‪ - 1‬الجهاد العسـكري وهـو خاص بدفـع العدوان‪ ،‬أو محاربـة طغيان الكفار‪،‬‬
‫ونصوص ذلك أشهر من أن تذكر‪.‬‬
‫‪ - 2‬الجهاد المدني السلمي‪ ،‬الموجه إلى معالجة الختلل الداخلي‪ ،‬وهو أعلى‬
‫أبواب المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬إنه في ذروته‪ ،‬يدلّ عليه قوله تعالى‪:‬‬
‫كبيرا أي جاهد هم بالقرآن‪ ،‬وال نص صريح‬ ‫‪‬‬ ‫فل ت طع الكافر ين وجاهد هم به جهادا‬
‫على أن الجهاد هنـا جهاد كلم ل جهاد حسـام‪ ،‬ويؤكـد قطعيـة هذا المعنـى‪ .‬وقوله‬
‫صـلى ال عليـه وسـلم‪« :‬فمـن جاهدهـم بلسـانه فهـو مؤمـن» وقوله‪« :‬جاهدوا‬
‫المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم» (رواه أبو داود والنسائي)‪.‬‬
‫ويتفق جهاد الكلمة وجهاد الرصاصة‪ ،‬في أن كلً منهما يعرض صاحبه لهلك‬
‫النفس‪ ،‬وذهاب المال والولد‪.‬‬
‫]‪[11‬‬
‫ب – سمات جهاد السلم)‬
‫ويتميز الجهاد المدني عن الجهاد العسكري بأمور‪:‬‬
‫‪15‬‬
‫الول‪ :‬أنـه جهاد سـلمي‪ ،‬أداتـه القلم واللسـان‪ ،‬والتكتـل الجتماعـي عـبر‬
‫المظاهرة والضراب والعتصـام‪ ،‬ل ينفجـر فيـه مسـدس ول رشاش‪ ،‬ول يرفـع‬
‫صاحبه سوطا ول عصا‪.‬‬
‫الثانـي‪ :‬أنـه فـي الغالب جهاد داخلي‪ ،‬فإذا كان الجهاد الخارجـي يهدف إلى‬
‫الحفاظ على سـلمة كيان الدولة وثغورهـا مـن العدوان‪ ،‬ويفتـح سـدود الطغيان‬
‫وال ستبداد ال تي ت صادر حر ية الشعوب‪ ،‬وتحول ب ين الدعوة والشعوب‪ ،‬فإن الجهاد‬
‫الداخلي يهدف إلى مقاومة انهيار المة الداخلي وانحرافها‪ ،‬لن غيبة روح الشورى‬
‫تؤدي إلى السـتبداد‪ ،‬والسـتبداد يؤدي إلى السـتعباد والضطهاد‪ ،‬فيقتـل الحريـة‬
‫والحيويـة فـي المـة‪ ،‬فتنشـل الرادة وتفسـد الدارة والقتصـاد‪ ،‬فيحدث الخراب‬
‫والنهيار‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أنه جهاد سلمي مدني‪ ،‬يهتم بسلمة الدولة من الداخل‪ ،‬ولذلك يعتبر‬
‫من باب (الحت ساب)‪ ،‬ف هو مو جه إلى بؤر الف ساد‪ ،‬أيا كا نت في القاعدة أو الق مة‪،‬‬
‫وقد قرر هذه السمة نبي الرحمة‪ ،‬بنص صريح عندما سأله أحد أصحابه‪ ،‬وقد وضع‬
‫رجله في الركاب‪:‬‬
‫«أي الجهاد أفضل؟»‬
‫فقال‪« :‬أفضـل الجهاد كلمـة حـق عنـد سـلطان جائر» (رواه النسـائي)‪ .‬فجعـل‬
‫الكل مة من الجهاد في الذروة‪ ،‬و هي نوع من أنواع الجهاد المد ني‪ .‬وأ كد ذلك أيضا‬
‫فقال‪ " :‬سيد الشهداء حمزة بـن ع بد المطلب‪ ،‬ورجـل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه‬
‫فقتله" ( رواه الحاكم وصححه‪ ،‬وصححه اللباني ايضا )‪.‬‬
‫وهذا الجهاد يتفق مع المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬في أن كلً منهما‬
‫أمـر بمعروف ونهـى عـن منكـر‪ ،‬ولكـن الجهاد يختـص بـبروز عنصـر المخاطرة‬
‫والمغامرة‪ ،‬التي قد تبرز في باب المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وقد ل تظهر‪،‬‬
‫وإن كان كلهما أيضا جهادا مدنيا‪ ،‬كما قال الرسول صلى ال عليه وسلم‪« :‬ما من‬
‫نـبي بعثـه ال فـي أمـة قبلي‪ ،‬إل كان له حواريون وأصـحاب‪ ،‬يأخذون بسـنته‪،‬‬
‫ويتقيدون بأمره‪ ،‬ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف‪ ،‬يقولون ما ل يفعلون ويفعلون ما‬
‫ل يؤمرون‪ ،‬فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن‪ ،‬ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن‪ ،‬ومن‬
‫جاهدهم بقلبه فهو مؤمن‪ ،‬وليس وراء ذلك من اليمان حبة خردل» (رواه مسلم)‪.‬‬
‫فكل الجهاديـن المدنـي والعسـكري مشتركان فـي فضيلة الجهاد‪ ،‬لن فـي كـل‬
‫منهما مشقة‪ ،‬فل أمر بمعروف ول نهي عن منكر إل بمشقة‪ ،‬ولذلك أوصى لقمان‬
‫ابنه بالصبر عليها ‪‬يا بنيّ أمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن‬
‫المور‪ ،‬ولكـن جهاد المغامرة بالنفـس‪ ،‬والمخاطرة بالمال والهـل‬ ‫‪‬‬ ‫ذلك مـن عزم‬
‫والولد فـى الوقوف أمام السـلطان الجبار‪ ،‬يعلو على المـر بالمعروف والنهـي عـن‬
‫‪16‬‬
‫المنكر العادي‪ ،‬الذي ل يعرض صاحبه للمخاطرة بالنفس‪.‬‬
‫ولذلك ن به العل مة أ بو الح سن الندوي رحم نا ال وإيا كم وإياه الذ ين يظنون‬
‫الكتابة والتأليف جهادا‪ ،‬وهم آمنون مطمئنون تجرى لهم أرزاقهم من تحت أقلمهم‬
‫وأل سنتهم دون تو قف‪ ،‬وت ستمر ترقيبات هم دون تع طل‪ ،‬ودون أن يعرض هم ما كتبوا‬
‫إلى أذى كـبير‪ ،‬فقال مـا معناه‪« :‬مـن ظـن أن الكتابـة جهاد شرعـي‪ ،‬فقـد قاس مداد‬
‫العلماء بدماء الشهداء‪ ،‬ويأبى ال ذلك»‪ .‬وفي ما يأتي من كلمات‪ ،‬سنحاول أن نقف‬
‫في ظلل النصوص الشرعية‪ ،‬التي قررت الجهاد المدني‪ ،‬عسى أن نستطيع استنباط‬
‫مـا فيهـا مـن حكـم وأحكام‪ ،‬مـن أجـل محاولة السـهام فـى بناء نظريـة ( الجهاد‬
‫المدني )‪ ،‬التي نحن اليوم أحوج ما نكون إليها‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫]‪[12‬‬

‫المقالة الرابعة‬
‫كيف نال جهاد السلم مرتبة جهاد‬
‫الحسام‬
‫(باسم رب الغلم!)‪:‬‬
‫أ – نموذج البطل الشهيد في ثقافتنا‪:‬‬
‫لقـد قرر ال سلم فضـل جهاد الكل مة على جهاد الر صاصة‪ ،‬فلم يقـل الر سول‬
‫الكر يم‪ :‬إن سيد الشهداء‪ ،‬هو الفدائي الذي غا مر بنف سه‪ ،‬وتخ طى حوا جز الخوف‪،‬‬
‫ح تى ق تل الطاغ ية‪ .‬على أن هذا النموذج هو الذي يتبادر إلى الذ هن‪ ،‬ع ند الحد يث‬
‫عـن البطولة والشجاعـة‪ ،‬فنموذج البطـل الشهيـد – فـي ثقافتنـا السـائدة – هـو مـن‬
‫يتأبط رشاشه‪ ،‬ثم يفرغ الرصاص في جمجمة الطاغية الجبار‪ ،‬وهو في هذه الحالة‬
‫مقتول ل محالة‪.‬‬
‫وهذه الصـورة ألصـق بالمفهوم التقليدي للبطولة والفتوة‪ ،‬وأخلد فـي أذهان‬
‫الناس‪ ،‬ولذلك فإن خالد السـلمبولي‪ ،‬ظـل فـي ذاكرة الملييـن‪ ،‬نموذجا للبسـالة‬
‫والشجاعة‪ ،‬والجرأة والفروسية‪.‬‬
‫ول كن حك مة الشري عة لي ست بالرأي العابر‪ ،‬الذي ين ظر إلى مفهوم الشجا عة‪،‬‬
‫مرتبطا بالجلبـة والثارة‪ ،‬بـل هـي مرتبطـة بالنتائج البعيدة المدى‪ ،‬فهـي تؤكـد مـا‬
‫عرفته المم بالخبرة‪ ،‬من أهمية بناء حسن التفكير وحسن التدبير‪ ،‬باعتبار هاتين‬
‫الصـفتين مـن نسـيج اليمان‪ .‬ولذلك جاء – فـي الحديـث الشريـف – أن الشديـد‬
‫(الشجاع)‪ ،‬هو الذي يملك نفسه عند الغضب‪ .‬وجاء في الحديث أن خير المجاهدين‬
‫من يقول كل مة العدل في مواج هة الطاغ ية‪ ،‬وأن خ ير الشهداء هو من يعلن كل مة‬
‫عدل ثم يجندله الطاغية‪.‬‬
‫إذن ليس الشهيد محصورا بالذي يصارع صراعا ماديا دمويا في الميدان‪ ،‬بل‬
‫إ نه له نماذج أخرى يأ تي فى طليعت ها الفدائي ال سلمي‪ ،‬الذي الجبار الجائر ي صارع‬
‫صراعا معنويا رمزيا‪ ،‬الذي يحمل سلح الموقف المعبر عن الكلمة‪ .‬هذا كما صرح‬
‫الحد يث‪ ،‬له أر فع الدرجات في ( سلم الشهادة)‪ .‬الحد يث يقول‪ :‬خ ير المجاهد ين هم‬
‫الذيـن يعرضون أنفسـهم لذى الفرعون‪ ،‬بقولة الحـق أمامـه‪ .‬الحديـث فـى الجهاد‬
‫العسـكري يقول " ل تتمنوا لقاء العدو‪ ،‬فإذا لقيتموهـم فاصـبروا " ولكنـه فـى الجهاد‬
‫‪18‬‬
‫العسـكري يقول " إذا قدرتـم النتائج‪ ،‬فاسـتدرجوا الطاغيـة الي قتلكـم ‪ .‬هذه هـي‬
‫الرسالة التي يوصلها ‪ :‬حديث باسم ال رب الغلم‪.‬‬
‫]‪[13‬‬
‫ب – نتائج جهاد الكلم أبقى من الحسام‪:‬‬
‫وقد يتعجب كثير من الناس‪ ،‬كيف تكون كلمة عزلء ساكنة‪ ،‬أعلى منزلة من‬
‫رصـاصة شهباء مدويـة‪ ،‬ولكـن العجـب يتبدد عندمـا يقرنون السـباب بالنتائج‪،‬‬
‫والوسائل بالغايات‪ ،‬ومن يتابع الحركة الخفية للتاريخ‪ ،‬ويتأمل أثر الكلمات في إنتاج‬
‫المواقـف‪ ،‬وأثـر المواقـف فـي خلود الكلمات يدرك السـبب‪ ،‬وإذا أدرك السـبب بطـل‬
‫الع جب‪ .‬مئات الشخ صيات المجاهدة هدت بكلمات ها طغيان الت جبر والق هر‪ ،‬ح تى خرّ‬
‫الباطل أمام قوة الحق‪.‬‬
‫فلتذ كر كلمات ال سلف ال صحابي الم صلح أمام الجبار الجائر‪ ،‬ع بد الرح من بن‬
‫أ بي ب كر وع بد ال بن الزب ير والح سين بن علي وعبدال بن ع مر وع بد ال بن‬
‫عمرو بن العاص وكلمات ومواقف السلف السياسي المصلح سعيد بن جبير وسعيد‬
‫بن المسيب‪ ،‬والحسن البصري وأحمد بن حنبل‪ ،‬وابن تيمية وابن القيّم والعز بن‬
‫ع بد ال سلم وكلمات وموا قف ال سلف فى ع صور الهيم نة الفرنج ية‪ :‬جمال الد ين‬
‫الفغاني وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده وحسن البنا وسيد قطب ومحمد باقر‬
‫الصدر وعبد العزيز البدري وغيرهم‪.‬‬
‫لقـد هاجـم الطاغيـة الكلمـة وأصـحابها‪ ،‬كمـا يهاجـم وحشا كاسـرا‪ ،‬أو جيشا‬
‫غازيا‪ ،‬ل ما ل ها من قوة‪ ،‬ولذلك اعترف أك ثر من طاغ ية‪ ،‬بأ نه ل ي حس بتفرده في‬
‫الحكـم‪ ،‬مـا دام المصـلح الفلنـي موجودا‪ ،‬ولذلك برر أحـد السـلطين قتله أحـد‬
‫المصلحين فقال ما معناه «كيف ل أقتله وهو بمجرد قول ينقض كل ما أحكمت من‬
‫فتل»‪.‬‬
‫لن كل مة ال حق المكتو بة بالدم‪ ،‬لي ست ن صا مخطوطا بماء الذ هب في مكت بة‬
‫التراث‪ ،‬إنما هي روح شفافة يمنحها الصبر والجهاد والستشهاد‪ ،‬هيئة طير محلق‬
‫في السماوات‪ ،‬فتكتسي أجنحة وريشا‪ ،‬وتحلق في العالي فوق الوهاد‪ ،‬فتحدق إليها‬
‫العيون‪ ،‬وتخفق لها القلوب‪ ،‬فتكون القدوة الحسنة‪ .‬وبذلك يصبح الضعيف العزل‪،‬‬
‫ذلك المر مي ب ين أر جل بول يس ال سلطان‪ ،‬بطلً شا كي ال سلح‪ ،‬ير سم بد مه و صبره‬
‫طر يق خلص ال مة‪ ،‬وي ضع لف تة ك تب علي ها‪ :‬هذا طر يق الحياة‪ ،‬ويكون مِن مَن‬
‫يعبّدون هذا الطر يق‪ ،‬ل بالدبا بة المجنزرة الم صفّحة‪ ،‬ول بالمد فع الذي يدك المدن‪،‬‬
‫بل بالكلمة الهادئة المجنحة بالموقف الثابت‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫]‪[14‬‬
‫ج – الطاغية ينهزم في الجولة الولى والثانية معاً‪:‬‬
‫لن كلمة العدل‪ ،‬وإن بدت لطيفة تقوم بدورين‪ :‬الول تعرية الوضاع الفاسدة‬
‫فالطاغية يتظاهر بالتقوى والعدالة‪ ،‬والكلمة الصابرة تقول له‪ :‬القضاء فاسد والدليل‬
‫هـو كذا وكذا الدارة فاسـدة الدليـل هـو الرقام‪ .‬أنـت تدعـى أنـك تحكـم بالسـلم ‪،‬‬
‫والسـلم والطغيان ل يجتمعان‪ ،‬الطغيان مـن نواقـض السـلم ( انظـر تفصـيل هذه‬
‫الفكرة فى كت يب ( الطر يق الثالث ‪ :‬الد ستور ال سلمي منقذا من العلم نة والحجاج‬
‫معا)‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬تعرية الطاغية أمام ضميره أيضا‪ .‬تعري الفاسدين أمام ضمائرهم‪،‬‬
‫وأمام عيون الناس‪.‬‬
‫فينهزم الجائر أمام ضميره فـي الجولة الولى‪ ،‬لن العدل والحـق‪ ،‬مزروعان‬
‫في فطرة وع قل كل إن سان ‪‬فِطرَة ال ال تي َفطَرَ النّاس علي ها‪ ‬والظالم مه ما الت مس‬
‫لنفسـه المعاذيـر‪ ،‬يكتوي بتوتـر الوجدان‪ ،‬ومهمـا ظهـر غالبا قوي المراس‪ ،‬مغلوب‬
‫من الداخل‪ ،‬كثير القلق والهواجس‪ ،‬فعندما يشبع الطغيان غروره وتسلطه‪ ،‬ويروى‬
‫النتقام عطشه إلى الدماء‪ ،‬يستيقظ ضميره بعد المنام‪ ،‬ويظل شبح الضحية يطارده‪،‬‬
‫كلما غفا صحا‪ ،‬كما ظل شبح المصلح سعيد بن جبير‪ ،‬يلحق الحجاج‪ ،‬ح تى مات‬
‫مهزوما مفلسـا‪ ،‬كمـا ظـل شبـح طغيان ( نيرون ) يلحقـه‪ ،‬حتـى أفضـى بـه إلى‬
‫الجنون‪.‬‬
‫وسيهزم الجائر أمام الناس في الجولة الثانية‪ ،‬إذ ستظل قضية الثأر تلحقه‪،‬‬
‫ك ما ظلت أشباح شهداء الخوان الم سلمين ومعذبي هم‪ ،‬تطارد فراع نة م صر‪ ،‬فظلوا‬
‫يعانون الجراح الداخليـة‪ ،‬يتعذبون آناء الليـل وآناء النهار‪ ،‬ويموتون هلعا وخوفا‪،‬‬
‫في صور مأ ساوية أق سى من الق تل المبا شر‪ ،‬ويترقبون أن يشووا في التنور الذي‬
‫أوقدوه عشية أو ضحاها‪ .‬ولعذاب الخرة أشد وأبقى ‪.‬‬
‫]‪[15‬‬
‫د – طلئع مجاهدي السلم يشقون مجرى النهر‪:‬‬
‫إن النفوس جبلت على محاربـة الجـبر والجور‪ ،‬والتطلع إلى الحريـة والعدل‬
‫فإذا وجدت ال مة فوار سها وأبطال ها صرعى وقتلى‪ ،‬ووجدت م صلحيها في غيابات‬
‫ال سجون وأقب ية التعذ يب والتقت يل‪ ،‬انب ثق في ها رأي عام‪ ،‬هادئ وثائر‪ ،‬ي سير على‬
‫خطاهـم‪ ،‬فيثأر لهـم‪ ،‬وسـرعان مـا يشرب الجلد والجزار‪ ،‬مـن الكأس نفسـها التـي‬
‫‪20‬‬
‫سقاها الضحايا‪.‬‬
‫وبذلك خسر الجائر حياته وأمنه‪ ،‬وخسر مجد الدنيا‪ ،‬وخسر مجد الخرة‪.‬‬
‫ل قد كا نت هذه الكل مة العزلء م صيدة للطاغ ية‪ ،‬ح ين ا ستهان ب ها‪ ،‬و ظن أ نه‬
‫سيعيش محتم يا بح صونه الثل ثة‪ :‬إعل مه وشرط ته ومحاك مه ر غم أ نف ال مة‪ .‬لن‬
‫المصلح المجاهد الشهيد ذا العقل الواسع‪ ،‬خدع الطاغية ذا العقل القاصر‪ ،‬الطاغية ظن‬
‫أن الدنيـا آخـر المشوار‪ ،‬فانشغـل بذاتـه ولذاتـه‪ ،‬وكره لقاء خالقـه ورازقـه‪ ،‬فظـن أن‬
‫المجاهديـن المدنييـن مثله؛ مـن طلب المال والجاه والشهرة والحياة الفانيـة‪ ،‬فعاقبهـم‬
‫وفق مقياسه‪.‬‬
‫ولكـن المجاهديـن رحبوا بهذا العقاب‪ ،‬لنهـم أدركوا أن موتهـم حياة لمتـه‪،‬‬
‫صـبرهم على‪ ،‬وكآبتهـم تتنـج للمـة مشاهـد مـن الفراح والعياد‪ ،‬ولكـن الطغاة ل‬
‫يعلمون‪:‬‬
‫يقضـى على المرء فـي سـاعات محنتــه× حتـى يرى حسـنـا مــا ليـس‬
‫بالحسـن‬

‫قـد سـلك المجاهـد أسـلوب الغلم مـع الملك الجائر المتفرعـن‪( ،‬كمـا ورد فـي‬
‫الحديث الذي رواه مسلم والترمذي والطبري)‪ ،‬لقد تعلم الغلم السلم من الراهب‪،‬‬
‫بد ًل من أن يتعلم ال سحر من ال ساحر ك ما ر غب الطاغ ية‪ ،‬فل ما علم الملك بذلك أراد‬
‫قتـل الغلم‪ ،‬وجرّب وحاول‪ ،‬ضربـه بالسـيف فلم يمـت‪ ،‬رماه بالسـهم فلم ينصـرع‪،‬‬
‫وأراد إغراقه فنجا‪ ،‬فعند ذلك حار الملك‪.‬‬
‫قال له الغلم؛ إنك لن تقتلني إل بوسيلة واحدة‬
‫فقال السلطان‪ :‬ما هيه؟‬
‫فقال‪ :‬أن تجمع الناس في محفل‪ ،‬ثم تتناول قوسك‪ ،‬ثم ترميني قائلً‪ :‬باسم ال‬
‫رب الغلم‪.‬‬
‫الملك طبـق مـا قال الغلم‪ ،‬عندهـا تهادى جسـد الغلم‪ ،‬وحلقـت روحـه فوق‬
‫رؤوس الناس‪ ،‬فآمن الناس كلهم برب الغلم‪ ،‬وأعلن السلطان بغبائه‪ ،‬ريادة الشهيد‬
‫ومبادئه‪.‬‬

‫لول احتراق النـار مـا جـاورت× ما كان يعرف طيب عرف العـود‬

‫وهكذا يكون موت ج سد المجاهد ين‪ ،‬حياة لقلوب ال مة‪ ،‬ويكون دم هم المراق‬
‫نورا تدرك ال مة به الما مة والغل بة‪ ،‬ك ما قال ال تعالى‪ :‬وجعل نا من هم أئ مة يهدون‬
‫بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون‪[ ‬السجدة‪.]24 :‬‬
‫‪21‬‬
‫]‪[16‬‬

‫المقالة الخامسة‬
‫حامل الكلمة‬ ‫لماذا كان‬

‫عديل حامل البندقية‬


‫‪ :‬المحصول أولً‬
‫أ – الحفاظ على داخل الحصن أفضل من نشر السلم‬
‫في الخارج‪:‬‬
‫لمَ كان قائل كلمة الحق أمام السلطان الجائر في مرتبة سيد المجاهدين؟‬
‫من هذه الن صوص‪ ،‬ي تبين ل نا ح كم شر عي‪ ،‬ينب ني على الجزم واليق ين‪ ،‬ل‬
‫على الظن والتخمين‪ ،‬هو أن الدين يوجب مقاومة انحراف السلطة‪ ،‬ويعده جهادا‬
‫مفروضا‪ ،‬حتـى إنـه يجعله فـي الرتبـة الولى مـن الجهاد‪ ،‬ويجعله صـنوا للجهاد‬
‫العسكري فهما فرسان يتباريان‪.‬‬
‫فالشه يد ت حت ظلل الكلمات‪ ،‬كالشه يد تحت ظلل ال سيوف‪ ،‬حقيقة ل مجاز‬
‫فيها‪.‬‬
‫لماذا يتسـاوى المجاهـد بالكلمات منزلة حمزة بـن عبـد المطلب؟ ويصـبحان‬
‫جاريان فـي الفردوس العلى؟ إنـه فـي منزلة صـحابي مهاجـر مـن السـابقين إلى‬
‫السلم‪ ،‬الذائدين عن الدين يوم بدر العظيم‪ ،‬المستشهدين يوم أُحد الشهير‪.‬‬
‫فأي منزلة يريد الطالبون أفضل من منزلة حمزة؟ وأي فضيلة يسعون إليها‬
‫أعلى مـن فضـل حمزة؟؟ أن يكون إنسـان عادي جدا‪ ،‬ليـس مـن كبار الفقهاء‬
‫والعلماء ول كبار الرؤسـاء ول قواد الجيوش ول مـن الزهاد المتبتليـن‪ ،‬بـل هـو‬
‫طالب علم أو عامي‪ ،‬في رتبة حمزة بن عبد المطلب!!‬
‫وهذه الو سمة ال تي كللت جبين المجا هد المد ني‪ ،‬تش ير إلى أن الحفاظ على‬
‫بنيـة الدولة الداخلي‪ ،‬يعادل الحفاظ على سـورها الخارجـي‪ ،‬وبأن الحفاظ على قوة‬
‫الدولة‪ ،‬يعادل الجهاد والفتوح بن شر ال سلم‪ .‬هذا الحد يث يؤ كد أهم ية بناء الثقا فة‬
‫المدن ية‪ ،‬ال تي تدل الناس على أن الجهاد الداخلي هو الجهاد ال كبر‪ ،‬وأن الخار جي‬

‫‪22‬‬
‫إنما هو الجهاد الصغر‪.‬‬
‫ومن أجل ذلك نجح الصحابة فى العهد الراشدي‪ ،‬لنهم وازنوا بين الجهادين‬
‫الداخلي والخارجـي‪ ،‬فاسـتمر المجتمـع قويا‪ ،‬والخلفـة راشدة قائمـة‪ ،‬فوصـل‬
‫الم سلمون إلى مشارق الرض ومغارب ها‪ ،‬في إيران وال سند واله ند‪ ،‬و في أفريق ية‬
‫والندلس‪ .‬ثم اخ تل التوازن‪ ،‬فظ هر الجهاد الخار جي الحر بي‪،‬ول كن الجهاد الداخلي‬
‫تضاءل وضمر‪ ،‬فسقط الحكم الشوري العادل‪ ،‬وبدأ البنيان ينهار من الداخل‪.‬‬
‫ولم ير كث ير من الناس بدا ية النهيار‪ ،‬لن العر بة ظلت منطل قة‪ ،‬ب سبب قوة‬
‫الد فع الولى ال تي أشعل ها الج يل الول في الع هد الراشدي‪ ،‬ل قد ظلت آلت المحرك‬
‫تدور‪ ،‬عبر القرون المفضلة‪ ،‬ولم يدرك الم سلمون أن قوة الد فع توقفت م نذ قرون‪،‬‬
‫وأن الحكم الجبري الجائر وإن حقق انتصارات فى الفتوح‪ ،‬إنما يعمل بأثر قوة دفع‬
‫العربة وشحنها‪ .‬وليست الفتوح من إنتاجه‪ .‬إنما هي ثمرات أشجار الزيتون‪ ،‬التي‬
‫غرسها الصحابة السابقون‪ ،‬لم يدرك عديد من الناس أن أصل دائهم وسبب محنهم‪،‬‬
‫إنما هو الحكم العضوض‪ .‬وأنه لن يستطيع دفع العربة من جديد‪ ،‬فترك الناس الملك‬
‫العضوض يعض هم بأنيا به‪ ،‬ويب طش ب هم بأظفاره‪ ،‬ما دام يجا هد فى الخارج ح تى‬
‫ا ستعبدهم وق تل في هم الحر ية والشها مة والكرا مة‪ ،‬وا ستبد بالدولة والدارة‪ ،‬و سلب‬
‫الموال وألهب الظهور بالسياط‪.‬‬
‫ثم تهاوى وسقط من الداخل‪ ،‬كأي إنسان يعب من الخمر حتى يترنح ل يدري‬
‫بنفسه‪ ،‬ع ند ذلك أ صبحت المة لقمة مطبو خة ناض جة‪ ،‬جاهزة لل سقوط في أول يد‬
‫تتناولها‪ ،‬وأول فم يكشر أنيابه‪ ،‬وعندما جاء العدوان الخارجي‪ ،‬لم يجد مقاومة ول‬
‫منازلة‪ ،‬لن أ سس بنيان الدولة قد انهار م نذ القرن الهجري الرا بع‪ ،‬و من أ جل ذلك‬
‫سـقط المسـلمون بيـن براثـن التتار‪ ،‬وسـقطوا أمام الزحـف الصـليبي‪ ،‬وهـا هـم‬
‫يتساقطون كالتين في أفواه حيتان المحيط الطلسي‪.‬‬
‫أجـل إن الجهاد الداخلي فريضـة شرعيـة عظمـى‪ ،‬عرفهـا السـابقون فنجحوا‪،‬‬
‫ونسيها المتأخرون فأخفقوا‪ ،‬فهل يصلح آخر هذه المة‪ ،‬إل بما صلح به أولها؟‬
‫]‪[17‬‬
‫ب – الفرق بين درجة المر بالمعروف ودرجة‬
‫الجهاد‪:‬‬
‫كلمة الخير والحق والعدل‪ ،‬لها حالتان‪:‬‬
‫الولى‪ :‬أن تكون بيـن يدي سـلطان عادل‪ ،‬يسـتمع إلى كلمـة النصـح والرأي‪،‬‬
‫ويعدهـا جزءا مـن البيعـة الشرعيـة‪ ،‬ويدرك أن البيعـة الشرعيـة‪ ،‬إنمـا هـي تعاقـد‬
‫اجتماعي‪ ،‬بين المة ومن اختارته‪ ،‬وكيلً عنها في إدارتها‪ ،‬ونائبا عنها في القيام‬
‫‪23‬‬
‫بشؤونها‪ ،‬وتنفيذ رأيها في تحقيق مصالحها‪ ،‬وعليها أن تطيعه أفرادا وجماعات‪ ،‬ما‬
‫دام يح سن ال سيرة المبن ية على الطا عة بالمعروف‪ ،‬مقيما فريض تي العدل والشورى‬
‫الملزمة سواء وجد الخذ بالنصيحة مناسبا بها أو تركها‪ ،‬والكلمة في هذه الحالة‪،‬‬
‫ليسـت جهادا‪ ،‬لن عنصـر المشقـة والمخاطرة والمغامرة مفقود‪ ،‬وإنمـا هـي فـي‬
‫المرتبة الثانية مرتبة‪ ،‬فإن كلمة الحق والعدل والخير فهي أمر بالمعروف ونهي عن‬
‫المنكر‪ ،‬فل معروف أعلى من العدل‪ ،‬ول منكر أشفع من الظلم‪ ،‬كما قال المام محمد‬
‫عبده‪.‬‬
‫الحالة الثانيـة‪ :‬أن تكون بيـن يدي سـلطان جائر‪ ،‬يخاف شره‪ ،‬وهـي فـي هذه‬
‫الصورة مغامرة ومخاطرة‪ ،‬قد يدفع ثمنها الناصح غاليا‪ ،‬فهو معرّض لقطع رزقه‪،‬‬
‫أو مصادرة ماله‪ ،‬أو التضييق عليه واضطهاده‪ ،‬أو عزله عن وظيفته‪ ،‬أو سجنه أو‬
‫قتله‪ ،‬وفي هذه الحالة تصبح الكلمة جهادا‪ ،‬أي في المرتبة الولى بل إنها تصل إلى‬
‫درجة المتياز وتصبح من أفضل الجهاد‪ ،‬ويكون قائلها‪ ،‬إن قتل‪ ،‬شهيدا من الطراز‬
‫الول‪.‬‬
‫]‪[18‬‬
‫ج – الفرق بين سطح المسرح وكواليسه‪:‬‬
‫هناك ت ساؤل آ خر‪ ،‬لم بلغ صاحب الكل مة ال صابرة منزلة صاحب المد فع في‬
‫مسألة الجهد المبذول؟ لن شرطي الجهاد هو مستوى الجهد‪ ،‬ووظيفته؟ هل الجهاد‬
‫السلمي يوازي في المشقة جهاد الحرب‪ ،‬أم أنه أشق؟‬
‫ولكل غالية مهرها‪ ،‬فالكلمة الشجاعة قد تعرّض صاحبها للمخاطر والمهالك‪،‬‬
‫أكثـر مـن الحرب‪ .‬لماذا؟ لن المجاهـد فـي الميدان ضـد العدوان‪ ،‬يجالد فـي معركـة‬
‫جليــة‪ ،‬الســلح فيهــا يكاد يكون متكافئا‪ ،‬والعدد يكاد يكون متقاربا‪ .‬والمجاهــد‬
‫الع سكري ب ين احتمال ين‪ :‬ن صر وعزة في الدن يا‪ ،‬أو شهادة سريعة‪ ،‬لن يذوق في ها‬
‫الموت أكثـر مـن مرة واحدة‪ ،‬وألم السـتشهاد فـى الحرب – كمـا ورد فـي الحديـث‬
‫الشريف – كقرصة إحدى القوارض"‪.‬‬
‫أ ما مجا هد الكل مة‪ ،‬ف هو فرد أعزل‪ ،‬أمام سلطة ذات بأس شد يد‪ ،‬كالع صفور‬
‫الجريح بين يدي قط جائع‪،‬وكالحمل الوديع أمام نمر كاسر‪ ،‬واحتمال هلكه أكثر من‬
‫سلمته‪.‬‬
‫والمجاهـد فـي المعركـة‪ ،‬يجاهـد فـي ميدان مكشوف وأهداف الحرب معلنـة‪،‬‬
‫وو سائلها متكافئة‪ ،‬فإن سلم عاش بطلً مجيدا‪ ،‬وإن مات ق ضى حميدا شهيدا‪ ،‬و هو‬
‫في كل الحال ين‪ ،‬محمود الذ كر وال سيرة‪ ،‬يعزز أهله وذووه‪ ،‬على أن هم أ سرة الب طل‬
‫والشهيـد‪ ،‬ويرفعون هاماتهـم على الناس‪ ،‬بمـا بنـى لهـم بطلهـم مـن شرف الدنيـا‬
‫والخرة‪ ،‬فـي الدنيـا بمـا خلف لسـرته وإقليمـه مـن حسـن ذكرهـم‪ ،‬وفـي الخرة‬
‫‪24‬‬
‫بشفاعته لهم وما وهبهم من الجر‪.‬‬
‫أما المجاهد المدني‪ ،‬فهو يجاهد في معركة خفية مبهمة عند الناس‪ ،‬ول سيما‬
‫فـي زمـن موت السـنة وحياة البدع‪ ،‬ولذلك يتعرض حيا وميتا‪ ،‬للتشويـه والتجريـم‪،‬‬
‫فهو عند السلطة مرتكبٌ خيانة‪ ،‬ومجرمٌ سياسي خطير‪.‬‬
‫]‪[19‬‬
‫د – السلطان الطاغية وأسلحة السحق الثلثة‪:‬‬
‫ولل سلطة الطاغ ية فقهاء خادعون ومخدوعون‪ ،‬وإعلم يز يف الحقائق‪ ،‬يج عل‬
‫سمعة المجا هد المد ني فى الحض يض‪ ،‬ويجر مه دنيويا وأخرويا‪ .‬فال سلطة الطاغ ية‬
‫ـس‪ ،‬وإرهاب‬ ‫ـة‪ :‬إرهاب البوليـ‬‫ـبر أجهزة الرهاب الثلثـ‬ ‫ـة‪ ،‬عـ‬ ‫قديرة على الجريمـ‬
‫القضاء‪ ،‬وإرهاب الترب ية‪ ،‬فإن عاش المجا هد المد ني طليقا تعرض رز قه للم صادرة‬
‫والتضييـق‪ ،‬وتعرضـت حياتـه للملحقـة والمطاردة‪ ،‬وعاش ومعـه أهله وذووه‪ ،‬فـي‬
‫عزلة وخوف وقلق‪ ،‬وتعرض عرضه ودينه وعلمه للتشويه‪.‬‬
‫ولسـلطة الجور قضاة جور يعتـبرون المـر بالمعروف السـياسي والقضائي‬
‫والداري بد عة‪ ،‬والحت ساب على ال سلطة فت نة‪ ،‬وفري ضة الكل مة المجاهدة جري مة‪،‬‬
‫والموقـف السـلمي بغيـا وخروجا على المام‪ ،‬ويمكـن قضاة الجور اعتبارهـا حرابـة‬
‫وإف سادا في الرض‪ ،‬ويمكن هم اعتبار ها خيا نة عظ مى‪ ،‬في ها إخلل بال من الم ستقر‬
‫وتفريق للجماعة المجتمعة‪ ،‬كما قال أحد فقهاء السلطان الجائر "الخروج على المام‬
‫بالكلم كالخروج عل يه بالح سام"‪ .‬لن الرأي والت عبير والجتماع والتج مع الشرع ية‪،‬‬
‫إنما هي عندهم فتن وبغي‪.‬‬
‫مـن أجـل ذلك تصـدر صـكوك الحرمان والتشويـه‪ ،‬ويلعـن هذا المصـلح على‬
‫المنابر وفـي وسـائل العلم‪ ،‬آناء الليـل وآناء النهار‪ ،‬فيمزق عرض المصـلح‪،‬‬
‫وتلصـق بـه كـل صـفات الذم‪ ،‬فهـو تارة فاسـق فاجـر‪ ،‬وتارة منحرف مارق‪ ،‬وتارة‬
‫أخرى مبتدع يدعو إلى بدعته‪ ،‬وتارة أخرى عميل للستعمار‪ ،‬وهو تارة أخرى كافر‬
‫مل حد‪ ،‬و من يقرأ الت هم ال تي ر مي ب ها الم صلحون أمثال مح مد عبده وجمال الد ين‬
‫الفغاني‪ ،‬يدرك طرفا من فنون التشويه‪.‬‬
‫فالحتسـاب فـي المور العاديـة‪ ،‬يعرض النسـان للضنـى والسـى‪ ،‬كمـا قال‬
‫أو يس القر ني‪( :‬إن ال مر بالمعروف والن هي عن المن كر‪ ،‬لم يدع للمؤ من صديقا‪،‬‬
‫نأمرهـم بالمعروف‪ ،‬فيشتمون أعراضنـا‪ ،‬ويجدون على ذلك أعوانا مـن الفاسـقين‪،‬‬
‫ح تى وال ل قد رمو ني بالعظائم‪ ،‬وأ يم ال ل أدع أن أقوم في هم بح قه) (العت صام‪:‬‬
‫‪ .)139/1‬بله الحتساب في المور السياسية‪،‬‬
‫وإن دخل مجاهد الكلمة غيابة السجن‪ ،‬فقد ل يخرج حتى يمر بفظائع الهانة‬
‫والتعذ يب‪ ،‬ف قد يعا ني جل سات التحق يق شهورا‪ ،‬ويعا ني ض نى المحاك مة والتجر يم‬
‫‪25‬‬
‫شهورا‪ ،‬و قد يق ضي في ال سجن ب ضع سنين‪ ،‬و هو مق يد في زنزا نة صغيرة‪ ،‬تولد‬
‫أنواعا من الكتئاب قد تفضي به إلى النهيار العصبي‪.‬‬
‫وهـو مهدد دائما بمـا يسـيء إلى عرضـه وعقله‪ ،‬فصـبره على الجهاد ليـس‬
‫ل عـن مـا يتعرض له مـن أمراض‬ ‫صـبر سـاعة‪ ،‬إنمـا هـو صـبر طويـل طويـل‪ ،‬فض ً‬
‫الجسـد‪ ،‬كالقرحـة وضغـط الدم والشلل‪ ،‬والسـكري وتسـاقط السـنان ونحوهـا مـن‬
‫أمراض التعذيب والسجون‪.‬‬
‫وقد يحقن بمواد مخدرة‪ ،‬تجعله بعد خروجه مشرد الذهن يعاني من الدمان‪،‬‬
‫وقد يخرج وهو في عداد المجاذيب‪ ،‬وقد يخرج فيجد بيته خرابا‪ ،‬قد تعرض للتفكك‬
‫وألوان المؤذيات‪.‬‬
‫و قد يخرج في جد نف سه فقيرا مرميا في قار عة الطر يق‪ ،‬و قد اعتزل أهله كل‬
‫أل يف‪ ،‬وابت عد ع نه كل صديق‪ ،‬ون فر م نه كل ودود‪ .‬ف صار كالم صاب بمرض شد يد‬
‫العدوى‪ ،‬كاليدز والجرب‪ ،‬وهـو فـي ذلك يترقـب خلصـه على يدي جلده‪ ،‬فـي أكلة‬
‫م سمومة‪ ،‬أو غيلة مكتو مة‪ ،‬وذلك خ ير له من ان يجد ها عبر توري طه فى جري مة‪،‬‬
‫تظهره أمام الناس‪ ،‬فاسد العقيدة أو فاسد الخلق‪.‬‬
‫وإن ق تل شهيدا‪ ،‬لم يق تل ب ين عش ية وضحا ها‪ ،‬لن يق تل ح تى ي مر ب ما في‬
‫ال سجن مـن تعذيـب وكآ بة‪ ،‬و قد ت مر سنون وهـو لم يحا كم‪ ،‬ول يموت ح تى يمـر‬
‫بصنوف الذى والعذاب‪ ،‬التي يمر بها السجين‪ ،‬بينما مجاهد المعركة ل يجد من ألم‬
‫القتل إل نحوا من ألم قرصة الزنبور والنحلة‪ ،‬كما ورد في الحديث الشريف‪.‬‬
‫ومجاهد الكلمة معرض على كل حال للفتنة‪ ،‬أكثر من مجاهد السلح‪ ،‬والنجاة‬
‫من الفت نة أ شق‪ ،‬لن ف تن التعذ يب وال سجون‪ ،‬قد ت سبب النهيار الع صبي والكآ بة‪،‬‬
‫وقـد ينقلب النسـان مـن صـف إلى صـف‪ ،‬بقفزة واحدة‪ ،‬مـن صـف المصـلحين إلى‬
‫صـف المداحيـن والمنافقيـن‪ ،‬أو على القـل فـى صـف المحبطيـن اليائسـين الذيـن‬
‫يعممون تجربتهم الذاتية المحبطة على من حولهم‪ .‬كما وقع للحسن البصري رحمنا‬
‫ال وإياه ‪ ،‬ولفقهاء كثيرين ‪ ،‬بعد إخفاق مسعاهم لصلح السلطان‪ ،‬فى ثورات ابن‬
‫الش عث والح سين بن علي وثورة القراء‪ .‬عند ما شاع ف قه ( الرجاء ) فى الع صر‬
‫الموي‪ ،‬ورسـخ فقـه الضرورة فـى العصـر العباسـي‪ ،‬تحـت عنوان ( الصـبر على‬
‫المام الجائر ) ‪ .‬ون سب ب عد ذلك إلى ال سنة والجما عة‪ ،‬وأطلق عل يه بعد ها من هج‬
‫ال سلف ال صالح‪ .‬والذي يتأ مل أحوال الناس‪ .‬الذ ين دخلوا ال سجون‪ ،‬ي جد أن ب عض‬
‫المصـلحين فتنوا فلم يسـتمروا‪ ،‬نسـأل ال السـلمة والسـتقامة‪.‬ولذلك وصـف ال‬
‫عباده المخل صين بالحرص على ال ستعاذة من الفت نة ح ين يرددون ‪‬رب نا ل تجعل نا‬
‫فتنة للذين كفروا‪ ‬أو ‪‬ربّنا ل تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا‪ ‬وهو إذا ثبت وصبر جدير بهذا‬
‫الوسام‪.‬‬
‫والمجاهد المدني فرد قد يكون أعزل‪ ،‬أمام قوة الدولة وجبروتها‪ ،‬محبوسا في‬
‫‪26‬‬
‫جوف مثلث قمعهـا المحكـم الضلع‪ :‬إرهاب البوليـس وإرهاب القضاء وتخديـر‬
‫الترب ية والتعل يم والعلم‪ ،‬والمجا هد المد ني في أحيان كثيرة «ل ي جد أعوانا» ي شد‬
‫بهم ظهره‪ ،‬ول يركن إليهم‪ ،‬عندما يصبح الخوف في مدينة الصمت سيد الخلق‪.‬‬

‫" أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" لماذا كانت الكلمة أفضل الجهاد؟‬
‫قال الخطابـي(إنمـا صـار أفضـل الجهاد ‪ ،‬لن مـن جاهـد العدو ‪ ،‬كان مترددا بيـن‬
‫الرجاء والخوف ‪ ،‬ل يدري هل يغلب أو يغلب ‪ ،‬وصاحب السلطان مقهور في يده ‪،‬‬
‫فهـو إذا قال الحـق وأمـر بالمعروف ‪ ،‬فقـد تعرض للتلف ‪ ،‬وأهدف نفسـه للهلك ‪،‬‬
‫فصار ذلك من أفضل أنواع الجهاد‪ ،‬من اجل غلبة الخوف ‪ ،‬كما قال الرسول الكريم‬
‫أيض ًا ( يـا أيهـا الناس مروا بالمعروف وانهوا عـن المنكـر قبـل إن تدعوا ال فل‬
‫يستجيب لكم ‪ ،‬وقيل ان تستغفروه فل يغفر لكم )"‬
‫مـن أجـل ذلك قال المام الغزالي "يجوز للمحتسـب بـل يسـتحب له ان يعرض‬
‫نفسه للضرب والقتل إذا كان لحسبته تأثير في رفع المنكر ‪ ،‬أو كسر جاه الفاسق ‪،‬‬
‫أو تقوية قلوب أهل الدين "[ هذا المقطع منقول من كتاب حقوق النسان للكاتب]‬
‫و ما رب طه الغزالي ب ين التأث ير والذى م سألة ضرور ية ‪ ،‬أي ان الن سان ل‬
‫ينبغـي ان يعرض نفسـه للذى ‪ ،‬إل إذا كان المنكـر كـبيرا يسـتحق التضحيـة ‪ ،‬بان‬
‫يكون النكار اثر بين حاضر ومستقبل‪.‬‬
‫قال أحد العلماء‪:‬إنما صارت لكلمة الحق عند السلطان الجائر هذه المنزلة ‪،‬‬
‫لن هذه الكل مة قد تج نب ال مة كثيرا من المشكلت والقل قل ‪ ،‬ورب ما أغ نت عن‬
‫معركة حامية ‪ ،‬ل بد منها لحقاق حق ‪ ،‬أو البتعاد عن كارثة‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫]‪[20‬‬

‫المقالة السادسة‬
‫السلطان الجائر له وجوه‪:‬‬
‫ي‬
‫ي واجتماعي وثقاف ً‬ ‫سياس ً‬
‫وقضائي‬
‫أ ‪ -‬جوامع الكلم‪ :‬المنطوق والفحوى‪:‬‬
‫من هو ال سلطان الجائر المق صود بالحد يث؟ أو تي الر سول صلى ال عل يه‬
‫وسـلم جوامـع الكلم‪ ،‬وجوامـع الكلم هـي الكلمات الموحيـة‪ ،‬التـي تحتوى على معان‬
‫أخرى إضافية‪.‬‬
‫أشار إلى ضرورة النتباه الى المعاني الضافية والثانوية ابن دقيق العيد‪ ،‬كما‬
‫أشار ابـن القيـم للمعانـي الضافيـة أو غيـر المباشرة ‪ ،‬ومثـل بأنواع منهـا الفحوى‬
‫وقياس المخالفـة‪ ،‬كمـا ذكـر الشوكانـي فـي ارشاد الفحول مثال ذلك قوله تعالى "‬
‫وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا‪ ،‬فقياس المخالفة يقتضي قاعدة مقابلة‪ :‬هى نولي‬
‫بعض الصالحين بعضا‪ ،‬وهذا وذاك قانون من سنن ال الجتماعية والسياسية‪.‬‬
‫ال سلطان الجائر فلنتأ مل و سنجد أ نه هو في الغالب كل م سؤول على ال سلطة‬
‫عن طر يق القهر والغل بة‪ ،‬دون شورى من الم سلمين‪ ،‬ول انتخاب‪ ،‬دون أن تتوا فر‬
‫ف يه صفات المام الشر عي‪ ،‬كالعدالة والكفا ية والمشاورة‪ ،‬و كل حا كم م ستبد ف هو‬
‫جائر لن رذيلة الستبداد هي جرثومة كل فساد‪.‬‬
‫الحا كم الجائر كل حا كم يح كم حكما مطلقا‪ ،‬من دون د ستور يحدد صلحياته‪،‬‬
‫بإرادة المـة وسـلطتها المجسـدة بمجلس نواب يراقبـه ويحاسـبه ويرسـم خطوط‬
‫السياسة الخارجية والداخلية المجسدة أيضا بالسلطة القضائية المستقلة والمجسدة‬
‫ايضا بحصر عمله فى السلطة التنفيذية‪.‬‬
‫وقـد يكون سـلطانا طاغوتا يلبـس برقـع السـلم‪ ،‬كمـا هـو شأن أكثـر الدول‬
‫ال سلمية في الع صور القدي مة‪ ،‬و قد يكون سلطانا ل يأ به بال سلم‪ ،‬ك ما هو شأن‬
‫كثير من الدول السلمية الحديثة‪ ،‬التي شاع فيها قيام الحكم على أساس وطني أو‬
‫قومي‪ .‬وقد يكون سلطان جائرا أخلقيا‪ ،‬يبيح الزنا والفجور والخمور والمجون‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫]‪[21‬‬
‫ب – السلطان الثقافي الجائر‪:‬‬
‫فحوى الحديث تشمل كل ذي سطوة وبأس‪ ،‬فقد يكون السلطان الجائر ثقافيا‪،‬‬
‫كأن يكون السـلطان هيئة ثقافيـة‪ ،‬ذات نفوذ ل يسـتطيع أحـد معارضتهـا‪ ،‬وأن ل‬
‫تعرّض للذى والمطاردة‪ ،‬تحت كر مرا كز العلم والثقا فة‪ ،‬و قد يكون هيئة إ سلمية‬
‫تحت كر تف سير الد ين‪ ،‬وتبتدع في أ صوله وفرو عه‪ ،‬وتلزم الخر ين برأي ها‪ ،‬وتخالف‬
‫السـلطان لمآربهـا‪ ،‬كمـا يسـتغلها السـلطان أيضا لغراضـه‪ .‬وكـم مـن النماذج عـبر‬
‫العصـور ال تي نجـد في ها تحالف ثنائ ية ( الفقهاء والمراء ) على ال ستبداد بشئون‬
‫الناس‪ .‬كمـا فـى تحالف فقهاء المعتزلة مـع السـلطان العباسـي‪ .‬والتـي تجلت فيهـا‬
‫حر ية الراي والت عبير والجتهاد من خلل كلمات ال حق ال تي قال ها المام أح مد بن‬
‫حنبـل رحمـه ال‪ ،‬ورفـض مـن خللهـا جـبر السـلطان الثقافـي الدينـي‪ ،‬فكان جزاؤه‬
‫الضرب والسجن والذى‪.‬‬
‫وقـد تكون سـلطة طائفـة إسـلمية تقمـع المذاهـب والطوائف السـلمية ول‬
‫تسمح بغير مذهبها‪ .‬وقمع الحرية السامية بدعة قديمة منذ العصر العباسي‪ ،‬وهي‬
‫التـي مهدت للدويلت الطائفيـة التـي ظهرت بعيـد العصـر العباسـي واسـتمرت حتـى‬
‫اليوم‪ ،‬قبل ظهور مفهوم (المواطنة) في الدول العربية والسلمية‪.‬‬
‫من أجل ذلك فإن السلطان الجائر‪ ،‬يدخل فى مفهومه سلطة الطائفة السلمية‬
‫القامعة‪ ،‬التي تحتكر تفسير الدين‪ ،‬وتضلل المجتهدين والمخالفين‪ ،‬ول تجيز لحد أن‬
‫يف تي بخلف ما ترى‪ .‬و هي بذلك ت خل با صل من ا صول العقيدة هو حر ية الراي‬
‫والتعبير السامية‪ ،‬التي جسدها المام أحمد بن حنبل بحقه فى الجتهاد‪.‬‬
‫وكـل مفكـر أو مثقـف أو طالب علم أو عامـي يجهـر برأي ل يخالف قطعيات‬
‫الكتاب والسنة‪ ،‬فقد قال كلمة حق‪ ،‬ولو كانت كلمته في رأينا خطأً‪.‬‬
‫إن قمع الحرية السامية من الباطل‪ ،‬وفتح النوافذ للشمس والهواء من الحق‪.‬‬
‫كما في كلمات الحق التي قالها المام أحمد بن تيمية رحمه ال وكان جزاؤه السجن‬
‫الذي طال وتكرر ح تى توفاه ال ف يه‪ .‬عند ما ها جم الجمود والركود‪ ،‬والوقوف على‬
‫مظا هر الد ين والعزوف عن مقا صده العظ مى‪ ،‬ال تي ينب غي اعتماد ها ع ند الوقائع‬
‫والنوازل‪ ،‬ك ما في م سائل الطلق‪ .‬وال سلطة ال سياسية الجائرة‪ ،‬تحرم حر ية الرأي‬
‫والتعبير والجتماع والتجمع السامية‪.‬‬
‫]‪[22‬‬
‫‪29‬‬
‫ج ـ سلطان القضاء الجائر ‪:‬‬
‫والسلطة القضائية المتحالفة مع السلطة السياسية‪ ،‬أو التي هي تابع مستكين‬
‫أقسى وأمر على المجددين المصلحين المجاهدين من غيرها‪ ،‬لنها تضرب بسيفين‬
‫معا‪ :‬سـيف الديـن‪ ،‬ومـا فيـه مـن فتاوى بالكفـر والنحراف والزندقـة‪ ،‬والفتنـة‬
‫والبدعـة ‪ ،‬وسـيف الدنيـا ومـا فيـه مـن أحكام بالقتـل على الردة والبغـي والحرابـة‬
‫والفتنة‪ ،‬وقد عانى من هذه السلطة كثير من المفكرين السلميين‪ ،‬كأحمد بن حنبل‬
‫وا بن تيم ية وا بن القيّ م‪ ،‬وا بن ر شد الحف يد وا بن حزم‪ ،‬ومح مد عبده‪ .‬إن ال سلطان‬
‫ال سياسي الجائر‪ ،‬سواء أكان فى القد يم أو الحد يث له ثلثة أسلحة ‪ :‬الول السلح‬
‫العلمـي ‪ ،‬مـن خلل تزييـف الثقافـة ‪ ،‬وقمـع الوعـي عـبر الصـحف والمسـاجد‬
‫والكتب ‪ ،‬وسائر وسائل العلم‬
‫الثاني ‪ :‬القمع البوليسي عبر الهراوة واليد الفولذية‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬القمـع القضائي‪ ،‬الذي يضـع على اليـد الفولذيـة ‪ ،‬قفازا مـن حريـر ‪،‬‬
‫مكتوب عليه كلمات العدالة والشريعة والحق‪.‬‬

‫]‪[23‬‬
‫د – عن السلطان الجتماعي الجائر‪:‬‬
‫وهناك ما هو أ خف ق سوة من ال سلطة ال سياسية والثقاف ية والقضائ ية و هو‬
‫السـلطة الجائرة الجتماعيـة‪ ،‬فالعادات الجتماعيـة المتخلفـة‪ ،‬أطغـى وأقوى مـن‬
‫السلطة السياسية‪ ،‬وخرافات وترهات العوام‪ ،‬أخطر على المجددين والمصلحين من‬
‫ظلم الحكام‪ ،‬لنهـا عوائد اجتماعيـة‪ ،‬رانـت واسـتقرت فـي العقول‪ ،‬فأصـبح إنكارهـا‬
‫مغامرة تقود إلى المجهول‪.‬‬
‫إن المجدد والمصلح والداعية ‪ ،‬يخالف الحكام ‪ ،‬فيكتسب تأييدا شعبيا ‪ ،‬ولكنه‬
‫عند ما يحارب التخلف الجتما عي قد تجت مع عل يه أنواع المؤذيات من كل جا نب‪،‬‬
‫عـبر العزل الجتماعـي ‪ ،‬والعزل السـياسي معـا ‪ ،‬فعبارة السـلطان الجائر تتضمـن‬
‫أمرين‪:‬‬
‫الول‪ :‬السلطة التي تخضع الناس رغبا ورهبا‪ ،‬وكل من خافه الناس ورجوه‬
‫فهو سلطان‪ ،‬سواء أكان سياسيا أم قضائيا أم ثقافيا أم اجتماعيا‪.‬‬
‫الثا ني‪ :‬الجور‪ ،‬و كل من حاد عن الطر يق الم ستقيم ف هو جائر‪ ،‬و كل جائر ل‬
‫يتوقع أن يعامل الخرين والناصحين بالعدل والنصاف‪.‬‬
‫إن كل جور أو خلل سياسي‪ ،‬إن ما هو نا تج عن خلل اجتما عي‪ ،‬وأن كل خلل‬
‫‪30‬‬
‫اجتماعـي‪ ،‬يحتمـي بخطاب ثقافـي‪ ،‬يؤطـر التخلف ويرسـخ الختلل‪ ،‬وأن كـل خلل‬
‫سياسي‪ ،‬إنما هو حاصل تراكم الخلل الثقافي والجتماعي معا‪.‬‬
‫إن التخلف كالتقدم‪ ،‬مثلث ذو ثل ثة أضلع‪ :‬ضلع سياسي وآ خر ثقا في وثالث‬
‫اجتماعي‪ ،‬فالسطان الجائر‪ ،‬هو سلطان قامع‪ ،‬سياسيا أو اجتماعيا أو ثقافيا‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫]‪[24‬‬

‫المقالة السابعة‬
‫النصيحة العلنية هي القاعدة‬
‫والنصيحة السرية استثناء‬
‫أ – البدء بالقول اللين‪:‬‬
‫أمر ال عباده بالدعوة إلى الحق‪ ،‬بالحكمة والموعظة الحسنة‪ ،‬فقال‪ :‬ادعُ إلى‬
‫سبيل ر بك بالحك مة والموع ظة الح سنة وجادل هم بال تي هي أح سن‪ ،‬ولذلك ينب غي‬
‫ح سن التأ ني في مخاط بة الناس‪ ،‬بتقد يم الكلم الل ين اللط يف‪ ،‬مه ما كان المخا طب‬
‫عا صيا أو ظالما أو كافرا‪ ،‬ف قد أ مر ال كلي مه مو سى وأخاه هارون عليه ما ال سلم‬
‫بالبدء باللين فقال‪ :‬فقول له قولً لينا لعله يتذكّر أو يخشى‪.‬‬
‫فالحلم والرفـق‪ ،‬ولطـف الخطاب‪ ،‬هـو الصـل فـي الدعوة‪ ،‬وهـو الذي تؤكده‬
‫الشري عة‪ ،‬ول ينب غي البدء ب سواه‪ ،‬ول التقل يل من جدواه‪ ،‬بل ي جب تكراره مرارا‪،‬‬
‫فقلوب البشر ليست أصلب من الصخر‪ ،‬الذي يؤثر فيه حبل السانية الضعيف‪ ،‬حتى‬
‫يحفر فيه خطا‪ ،‬يقسم كتلة الصخرة قطعتين‪ ، :‬كما قال الشاعر‪:‬‬
‫اطلب ول تضجرَ من مطلب×فآفة الطالب أن يضجرا‬
‫أما ترى الحبل بتكراره×في الصخرة الصماء قد أثرا‬
‫ومـن المناسـب مخاطبـة السـلطان أيا كان سـياسيا أو اجتماعيا أو ثقافيا أو‬
‫قضائيـا‪ ،‬بمـا اعتاد أن يخاطـب بـه‪ ،‬إذا لم يكـن فـي ذلك محذور شرعـي‪ ،‬ومـن‬
‫الضروري ذكـر محاسـنه‪ ،‬والعتراف بمـا له مـن فضـل‪ ،‬فالعتراف بالفضـل عيـن‬
‫النصاف‪ ،‬قال ال تعالى‪ :‬وأقسطوا إن ال يُحبّ المقسطين‪[ ‬الحجرات‪ ،]9 :‬والقسط‬
‫فاعدلوا [النعام‪ " .]152 :‬ول‬
‫‪‬‬ ‫هـو العدل فـي القوال والفعال‪ ،‬قال تعالى‪ :‬وإذا قلتـم‬
‫يجرمن كم شنآن قوم ‪ ،‬على أن ل تعدلوا ؛ اعدلوا هو أقرب للتقوى " أف ضل مقامات‬
‫العدل ‪ ،‬وهو العدل عند الغضب والموجدة والعداوة‪.‬‬
‫إن عل مة إن صاف الن سان‪ ،‬واعتدال مزا جه وحكم ته ‪ ،‬هو أن يعدل فى م ثل‬
‫ـن‬‫ـى الخطاب ‪ ،‬كان مـ‬ ‫ـاب فـ‬‫هذه الحالت ‪ ،‬وإذا اضاف الى العدل ‪ ،‬هدوء العصـ‬
‫الدعاة بالحكمـة والموعظـة الحسـنة‪ ،‬فالسـلوب اللطيـف يحفـز المخاطـبين على‬
‫الصغاء‪ ،‬ويزيل الوحشة بينهم وبين الناصح‪ ،‬فتصل الرسالة أو توشك‪ ،‬وقد يقتنع‬
‫المخاطبون ويسمعون ويستجيبون‪ ،‬ويدركون أن الناصح مشفق عليهم‪ ،‬صادق غير‬
‫متكلف‪ ،‬ويدركون أن صديقهم هو من صَدَقَهم ل من صدّقهم‪ ،‬ك ما قال ال تبارك‬
‫‪32‬‬
‫وتعالى‪ :‬ومن أحسن قولً ممّن دعا إلى ال وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين‬
‫* ول تستوي الحسنة ول السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة‬
‫كأنه ولي حميم * وما يُلقّاها إل الذين صبروا وما يُلقّاها إل ذو حظّ عظيم‪[ ‬فصلت‪:‬‬
‫‪.]33-35‬‬
‫وكذلك ينبغـي أن يعرف المخطئيـن‪ ،‬بالمعروف الذي تركوا‪ ،‬والسـوء الذي‬
‫ارتكبوا‪ ،‬فقد يكون خطؤهم ناتجا عن جهل بالمر‪ .‬وأكثر ما يكون ذلك في العادات‬
‫ال تي ي شب علي ها ال صغير‪ ،‬ويهرم علي ها ال كبير‪ ،‬ك ما قال أ بو ب كر الجزائري‪« :‬إن‬
‫النفس النسانية تعتاد القبيح فيحسن عندها‪ ،‬وتألف الشر فيصبح طبيعة لها‪ ،‬فذلك‬
‫شأن ال مر بالمعروف والن هي عن المن كر‪ ،‬إذا ترك ولم يؤ مر به ساعة تر كه؛ ل‬
‫يلبث الناس أن يعتادوا تركه‪ ،‬ويصبح فعله عندهم من المنكر‪ ،‬وكذلك المنكر إذا لم‬
‫يبادر إلى تغييره وإزالته‪ ،‬لم يمض يسير من الزمن‪ ،‬حتى يكثر وينتشر‪ ،‬ثم يعتاد‬
‫ويؤلف‪ ،‬ثم ي صبح في ن ظر مرت كبيه غ ير من كر‪ ،‬بل يرو نه هو المعروف بعي نه»‬
‫(منهاج المسلم‪.)88 :‬‬
‫]‪[25‬‬
‫ب – النصحية السرية شذوذ على القاعدة ل يقاس‬
‫عليه ‪:‬‬
‫أ سلوب الل ين والل طف ل يق صد به الن صيحة ال سرية‪ ،‬ك ما يتو هم كث ير من‬
‫الناس‪ ،‬فالقول بالبدء بالن صيحة ال سرية‪ ،‬فضلً عن القول بترك يز ال مر بالمعروف‬
‫ب ها‪ ،‬قول في الشرع بغ ير دل يل‪ ،‬وابتداع في الد ين بغ ير ما شرع الحك يم ال خبير‪،‬‬
‫ينبغي التزام النصيحة السرية فيهما‪:‬‬
‫الولى‪ :‬الجانب الشخصي من حياة الفاجر‪ ،‬إذا كان الحاكم مقترفا في السر‬
‫بعـض الموبقات‪ ،‬كشرب الخمـر والزنـا واللواط‪ ،‬على أنـه ل ينبغـي للمحتسـب أن‬
‫يتعرف على هذا المنكر من خلل التجسس على الناس في بيوتهم‪ ،‬أو يرفع ثياب‬
‫أحدهم ليرى ما تحتها‪ ،‬أو يكشف الغطاء ليعرف ما في الوعاء‪ ،‬إذ الشريعة أمرت‬
‫بسـتر عورات الناس‪ ،‬ونهـت عـن التجسـس عليهـم قال تعالى‪ :‬ول تجسـّسوا‪‬‬
‫[الحجرات‪ ]12 :‬وقال رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم‪« :‬ول تحسـّسوا» (رواه‬
‫البخاري) وقال عليه أزكى الصلة والسلم‪« :‬من ستر مسلما ستره ال في الدنيا‬
‫والخرة» (رواه مسلم)‪.‬‬
‫الثانيـة‪ :‬إذا كان المنكـر فـي مجال أسـرار الدولة العامـة‪ ،‬التـي يضـر نشرهـا‬
‫بمصالح الدولة العليا‪ ،‬ويبين ثغراتها للعداء في الخارج‪ ،‬وللمنافقين والفوضويين‬
‫في الداخل‪ .‬والبدء بالنصيحة السرية في هذين المجالين حسن‪ ،‬بل هو الولى‪ ،‬ول‬
‫‪33‬‬
‫سـيما إذا كان الناصـح مـن مخالطـي السـلطان‪ ،‬أو مِن مَن يسـهل عليـه مخاطبـة‬
‫الرؤسـاء‪ ،‬كأن يكون مـن العيان والوجهاء‪ ،‬أو كبار المدراء والعلماء‪ ،‬فإن وجـد‬
‫الناصـح اسـتجابة ولو قليلة‪ ،‬واصـل مشوارهـا‪ ،‬وإن وجـد إعراضا أو عنادا وجـب‬
‫عليه الجهر‪.‬‬
‫وليست النصيحة السرية مشروعة‪ ،‬إل في مثل هاتين الحالتين‪ ،‬لن كثيرا من‬
‫أهل الرأي والصلح‪ ،‬ل يقدرون على مشافهة الحاكم‪ ،‬ولنهم ل يضمنون أن تصل‬
‫مكاتبت هم إل يه‪ ،‬و من ه نا ل ينب غي أن يترك النا صح المن كر منتشرا محتجا بأ نه لم‬
‫يستطع أن يناصح في السر‪.‬‬
‫النصيحة استثناء من القاعدة‬
‫وللكتفاء بالنصيحة السرية‪ ،‬محاذير ينبغي ادراكها منها‪:‬‬
‫أن ل يزول المن كر‪ ،‬وتحال ن صيحة النا صح إلى سلة المهملت‪ .‬ومن ها أن‬
‫يساء للناصح‪ ،‬في رزقه ووظيفته‪ ،‬أو جاهه ومنصبه‪ ،‬أو في نفسه وحياته‪.‬‬
‫ومن ها أ نه رب ما لف قت له ته مة ت صوره ب ين الناس مجرما منبوذا‪ ،‬وتشوه‬
‫سمعته‪.‬‬
‫ومن ها أن ل يتم كن الناس من معر فة جهاده‪ ،‬لتخاذه قدوة وأ سوة‪ ،‬بل قد‬
‫يظنو نه من أعوان الظل مة إن لم ي كن من هم‪ ،‬ويعدو نه راضيا موافقا‪ ،‬وأخ طر من‬
‫كـل مـن مـر أن الناس سـيظنون أن الجور والسـتبداد وقمـع الحريـة السـامية‬
‫والفساد أمرا مقبولً في الشريعة‪ ،‬لن علماء الشريعة لم ينهوا عنه‪.‬‬
‫ول ب ّد للمجاهـد المدنـي‪ ،‬مـن أن يوازن بيـن المصـالح والمفا سد في النتائج‪،‬‬
‫فل يس الف طن من عرف الخ ير من ال شر فح سب‪ ،‬بل هو من عرف أف ضل الخير ين‬
‫وأهون الشرين‪ ،‬كما ذكر أحد العلماء‪.‬‬
‫]‪[26‬‬
‫ج – فاصدع بما تؤمر‪:‬‬
‫فإذا لم يزل المنكر بالهمس‪ ،‬سواء أكان الهمس مقالة أم خطبة أم رسالة ولم‬
‫ت بد علمات إيجاب ية ل سلوب الل ين والل طف‪ ،‬فل ب ّد من أ سلوب الج هر والل ين معا‪،‬‬
‫فالمنكرات العامـة‪ ،‬أمور مشتهرة ول يمكـن أن تزول إل بالجهـر بإنكارهـا‪ ،‬على أن‬
‫الجهـر ل ينبغـي أن يعدل عـن الليـن إلى الشدة‪ ،‬ولكـن الليـن ل يعنـي التخاذل‬
‫والضعـف‪ ،‬والتهاون والتسـاهل‪ ،‬قال تعالى‪ :‬فاصـدع بمـا تؤمـر‪[ ‬الحجـر‪،]94 :‬‬
‫والصـدع ل يعنـي الغفلة عـن حسـن الدب‪ ،‬ولكنـه يعنـي وضـع العواطـف الثائرة ‪،‬‬
‫والموضوعات الصعبة ‪ ،‬فى عبارات هادئة‪.‬‬
‫ولذلك نص الفقهاء على البدء بوعظ الظالم «بما يرقق قلبه‪ ،‬بذكر ما ورد في‬
‫‪34‬‬
‫الشري عة‪ ،‬من موا عظ الترغ يب والتره يب‪ ،‬فإن لم يح صل امتثال‪ ،‬ا ستعمل عبارات‬
‫التأنيب والتعنيف والغلظ في القول» (الجزائري‪ :‬المنهاج‪.)90 :‬‬
‫ومن خزعبلت إبليس‪ ،‬التي رانت على النفوس‪ ،‬في عهود التأخر والتدليس‪،‬‬
‫أن يقصر الفقهاء والفضلء الحتساب على الحكام بـ (النصيحة السرية)‪ ،‬وأن يعد‬
‫الجهر والعلنية والصدع‪ ،‬من مجافاة أدب (الحكمة) و(الموعظة الحسنة)‪ ،‬وشر من‬
‫هذا وذاك أن يعدوا تقويـم انحرافات السـلطة‪ ،‬ومناهضـة الجور والظلم‪( ،‬فتنـة)‬
‫ودعوة إلى (الفوضـى)‪ ،‬أو (الفسـاد فـي الرض)‪ ،‬كيـف ذلك؟ والرسـول صـلى ال‬
‫عل يه و سلم يقول ( في الحد يث ال صحيح)‪« :‬لتأطرن هم على ال حق أطرا‪ ،‬ولتق صرنهم‬
‫على الحـق قصـرا أو ليخالفـن ال بيـن قلوبكـم»‪ .‬وكيـف يؤطرون مـن دون إشاعـة‬
‫الخطاب ‪ ،‬مـن اجـل كسـر سـلطان جورهـم وجـبرهم المادي ‪ ،‬بسـلطان معنوي أمام‬
‫الرأي العام‪.‬‬
‫فال مر بالمعروف والن هي عن المن كر في ش قي العقيدة المد ني والرو حي من‬
‫أ هم فرائض ال سلم وتحقي قه ي ستلزم حر ية التج مع‪ ،‬وهذا مع نى اليات الكري مة "‬
‫وتوا صوا بال حق وتوا صوا بال صبر" و " لت كن من كم ا مة يدعون إلى الخ ير" وقوله‬
‫صلى ال عل يه و سلم " من رأى من كم منكرا فليغيره بيده فان لم ي ستطع فبل سانه "‬
‫وقوله صلى ال عل يه و سلم في الحد يث الذي رواه عبادة بن ال صامت ر ضي ال‬
‫ع نه " بايع نا ر سول ال صلى ال عل يه و سلم على ال سمع والطا عة ‪ ،‬في الع سر‬
‫واليسـر والمنشـط والمكره ‪ ،‬وعلى أثره علينـا ‪ ،‬وان ل تنازع بالمـر أهله ‪ ،‬إل أن‬
‫تروا كفرا بواحا عندكم من ال فيه برهان وعلى أن تقول الحق أينما كان ل تخاف‬
‫في ال لومة لئم" ( أخرجه البخاري ومسلم) ‪ ،‬فصار من صفات المواطن الصالح‬
‫في السلم أن يشارك في الشئون العامة ‪ ،‬وقد نص الفقهاء كالنووي على أن ظلم‬
‫الدولة من الكفر البواح‪.‬‬
‫واعتـبر رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم ترك إعلن الرأي دللة على رضـا‬
‫النسان بالهوان وتقبل الحتقار ‪ ،‬فقد روى أبو سعيد الخدري رضي ال عنه ‪ ،‬قال‬

‫‪35‬‬
‫قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " ل يحقرن أحدكم نفسه ‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسول ال‬
‫وك يف يح قر أحد نا نف سه ؟ قال ‪ :‬يرى إن عل يه مقالً ‪ ،‬ثم ل يقول بت ‪ ،‬فيقول ال‬
‫عز وجل يوم القيامة ‪ :‬ما منعك إن تقول في كذا وكذا ‪ ،‬فيقول خشية الناس فيقول‬
‫‪ :‬فإياي كنت أحق أن تخشى " ( رواه ابن ماجه ) ‪.‬‬
‫وحق الجماعات في مراقبة الحكام ونصحهم ونقد تصرفاتهم يستلزم ضرورة‬
‫تم تع الفراد والجماعات بحر ية الجتماع والتج مع ‪ .‬إن الق يم المع تبرة فى كل أ مة‬
‫قوية إنما هي متقررة فى الشريعة المطهرة ‪.‬‬
‫العدل أسـاس الحكـم ‪ ،‬والشورى هـي حوض العدل ‪ ،‬والحريـة هـي هواء‬
‫الشورى‪ ،‬والتجمعات المدنيـة هـي مصـدات رياح الهواء والسـدود أمام الطغيان‬
‫وتقر ير مبدأ الشورى و ما يتر تب عل يه من مناقشات ي ستلزم أي ضا حر ية التج مع ‪،‬‬
‫فل يمكن تطبيق الشورى من دون حرية تجمع ‪ ،‬ومن الخطل إن يتصور احد قيام‬
‫الشورى ‪ ،‬بدون حرية الرأي أول وحرية التجمع ثانيا‪.‬‬
‫ولذا وجـب إن يتربـى الفراد والجماعات على حريـة الرأي والتجمـع ‪ ،‬وكان‬
‫الخلفاء الراشدون ويعيبونهـم إذا سـكتوا ‪ ،‬قال رجـل لعمـر بـن الخطاب اتـق ال يـا‬
‫عمـر فقال عمـر ‪ :‬إل فلتقولهـا فل خيـر فيكـم إن لم تقولوهـا ‪ ،‬ول خيـر فينـا إن لم‬
‫نسمعها وكلمة اتق ال تشمل النصح والمر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪ ،‬وهذا‬
‫كله يقتضي حرية التعبير ‪.‬‬
‫ولذلك صارت الشجا عة من م ستلزمات حر ية الرأي فل حر ية لرأي ‪ ،‬إذا لم‬
‫يكـن الناس على قدر كاف مـن الشجاعـة والجرأة والجسـارة ‪ ،‬ل بالخوف والتهيـب‬
‫من ذوي ال سلطان‪ ،‬يرا كم حشرات الض عف والج بن ‪ ،‬فل ي ستطيع الن سان إن يأ مر‬

‫‪36‬‬
‫بمعروف ‪ ،‬أو ينهى عن منكر ‪ ،‬وهذا أمارة هلك المة ‪ ،‬وقال النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم " إذا رأيت أمتي تهاب إن تقول للظالم لم فقد تودع منها "‪.‬‬
‫وال مر بالمعروف النهي عن المن كر ‪ ،‬وهو باب وا سع يش مل (معار ضة) كل‬
‫ما يخالف السلم ‪ ،‬وهو أمر عام لكل إنسان استنادا إلى قوله تعالى " ولتكن منكم‬
‫ا مة تأمرون بالمعروف تنهون عن المن كر" (آل عمران‪ .)104:‬وقوله " كن تم خ ير‬
‫امـة أخرجـت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عـن المنكـر " (آل عمران‪)110:‬‬
‫وقول الرسـول صـلى ال عليـه وسـلم ( مـن رأى منكـم منكـر فليغيره بيده فان لم‬
‫يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه ‪ ،‬وذلك اضعف اليمان "‬
‫فأو جب ال على أ هل العلم وعرفاء الناس ‪ ،‬من دعاة الق سط و الن صاف إن‬
‫يقودوا مراكـب أصـلح مجتمعاتهـم ‪ ،‬وان يجهروا بالحـق ‪ ،‬مسـتشعرين بأنهـم‬
‫محا سبون عن هذه الحر ية ‪ ،‬ال تي ي جب إن يوظفو ها لن شر ال حق والعدل والدعوة‬
‫إلى ال ‪ ،‬قال تعالى " الذ ين يبلغون ر سالت رب هم ‪ ،‬ول يخشون احدا إل ال وك فى‬
‫بال حسيبا"‪.‬‬
‫ولذلك قر نت الن صيحة بالبي عة ‪ ،‬ك ما في حد يث جابر ر ضي ال ع نه " بايع نا‬
‫رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم على السـمع والطاعـة والنصـيحة لكـل مسـلم "‬
‫( رواه البخاري ومسلم والنسائي) ‪.‬‬
‫ـن يداهنون ويراجعون‬
‫ـد الذيـ‬
‫ـن كتمان العلم ‪ ،‬وتوعـ‬
‫وحذر تبارك وتعالى مـ‬
‫ويخافون غير ها ‪،‬أو يبحثون عن رضاه قال تعالى " وإذ ا خذ ال ميثاق الذ ين أوتوا‬
‫الكتاب لتبيننه للناس ول تكتمونه" ‪ ،‬ثم بين جزاء من يسكتون عن الحق فقال " إن‬
‫الذ ين يكتمون ما أنزل نا من البينات والهدى من ب عد ما بيناه للناس ‪ ،‬أولئك يلعن هم‬
‫ال ويلعنهـم اللعنون" وقال الرسـول صـلى ال عليـه وسـلم " مـن كان عنده علم‬
‫‪37‬‬
‫فكت مه ال جم ال بلجام من نار يوم القيا مة" ( رواه أ بو داوود والترمذي وا بن ما جه‬
‫واحمد) ‪.‬‬
‫وهذا إلزام لهـل العلم وعرفاء القوم خاصـة ‪ ،‬وسـائر الناس كافـة بحريـة‬
‫القول‪ ،‬وبالج هر بال حق‪ ،‬ولذلك قال الر سول صلى ال عل يه و سلم " سيد الشهداء‬
‫حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى سلط ابن جائر فأسره ونهاه فقتله"‪.‬‬
‫]‪[27‬‬
‫د – بين الفتنة هي التهاون أمام الستبداد والفساد‪:‬‬
‫واعتبار الج هر بالن صح وال صلح أمرا ل تح مد عقباه‪ ،‬أو فت نة وف سادا من‬
‫أعجـب العجـب‪ ،‬لن النصـوص الشرعيـة لم تقيـد كلمـة الحـق والعدل والخيـر‪ ،‬بأن‬
‫تكون أسرارا أو إضمارا‪.‬‬
‫ف ما أ حل ال ف هو حلل ك يف يج عل الغافلون حر ية الرأي والت عبير والجتماع‬
‫والتجمع السامية ‪ ،‬من الفتن ‪ .‬وهم بذلك داخلون فى الكذب على ال وعلى رسوله‪،‬‬
‫واعتبار أمـر مـن المور فتنـة أو فوضـى أو فسـادا فـي الرض‪ ،‬ل يكون إل بدليـل‬
‫شرعـي صـريح‪ ،‬مـن المحظورات المحرمات‪ ،‬وكأنهـا الدعوة إلى الربـا والزنـا‪،‬‬
‫والخروج على الحكم الشوري العادل بحمل السلح‪.‬‬
‫ف ما أف ظع التجاه إلى تبرير ال سكوت عن النحراف ال سياسي والجتما عي‪،‬‬
‫والتعذير لسلطان الجور والقهر‪ ،‬مهما كانت نية (حزب التبرير السفنجي ) حسنه‪،‬‬
‫ومهما كان صلح أفراده الشخصي‪ ،‬ومهما كانت دوافعهم الواقعية‪ ،‬فإنه رسخ في‬
‫ثقافتنا سلوك التعايش مع انحراف الحكام‪ ،‬وهو تحريف للمقاصد الشرعية‪ ،‬وتأويل‬
‫فاسـد للنصـوص الصـريحة‪ ،‬وهـو يصـب فـي تيار تحليـل الحرام‪ ،‬وتحريـم الحلل‪،‬‬
‫ولذلك فهو لون من الوثنية السياسية ‪ .‬كما قرر المفسرون فى تفسير آية التوبة "‬
‫اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا "‬
‫فاعتبار ن صح ال سلطان ون قد أخطائه ووع ظه وزجره وتقو يم انحرا فه فت نة‪،‬‬
‫إنما هو بدعة كبرى فى الدين‪ ،‬إنه يشبه أسلوب القاعدين عن الجهاد‪ ،‬الذين رأوا‬
‫الجهاد فتنة فقالوا «ل تفتنا»‪ .‬فرد عليهم الخبير العليم‪ :‬أل في الفتنة سقطوا‪.‬‬
‫وأنت الفاتن الكبر‬ ‫وتزعم أنها فتن ×‬
‫أمـا الكتفاء بالهمـس فـي الذن‪ ،‬سـواء زال السـوء أم ازداد‪ ،‬واعتباره مـن‬
‫(الحك مة) الشرع ية‪ ،‬والموع ظة الح سنة المطلو بة‪ ،‬ف هو بد عة صريحة ‪ ،‬وتحر يف‬
‫لمفهوم (الحكمـة)‪ ،‬لم يسـلكه النـبياء والمرسـلون الذيـن أوتوا الحكمـة وفصـل‬
‫الخطاب‪.‬‬
‫‪38‬‬
‫والم صطلحات الشرع ية‪ ،‬ومن ها (الحك مة) و(الفت نة) ل يجوز تحد يد مدلول ها‬
‫بالوا قع الفا سد‪ ،‬ول بالهواء الشائ عة‪ ،‬ول بالظنون والوهام‪ ،‬إن ها محددة المفهوم‬
‫والمضمون‪ ،‬بالنصوص الشرعية ومقاصدها وبأحوال الحقل النبوي الراشدي‪.‬‬
‫و من جهل الن صوص الشرع ية‪ ،‬فلينظر آثار أعمال هؤلء الذ ين سكتوا عن‬
‫منكرات الجور والجـبر ‪ ،‬هـل أدت إلى ترق فـى الصـلح والرشاد‪ ،‬أم إلى ترد فـى‬
‫الفواحش والفساد ‪ .‬فهذه هي المسطرة ‪ ،‬ومن جهل آيات المسطورة فى الكتاب ‪،‬‬
‫لم يجعل آياته المشاهدة فوق مسرح الحياة ‪ .‬هذه سنن ال فى النسان والجتماع‬
‫والطبيعـة ‪ .‬وتلك سـنة الشريعـة ‪ .‬فكيفـت تتعارضان؟ والخلصـة أن مـن ظـن أن‬
‫(الحك مة) في ال سكوت على ما ل يح قق لل مة سموا روحيا ومدنيا معا‪ ،‬ف قد أف تى‬
‫برأيه وخالف الدلة الشرعية القطعية‪ ،‬وقد فصل المام الشاطبي هذه المفاهيم فى‬
‫كتاب( العتصـام )‪.‬وسـنفصل مسـألة (البدعـة) و(السـنة) فـي مقالة أخرى إن شاء‬
‫ال‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫]‪[28‬‬

‫المقالة الثامنة‬
‫الكلمة مشروع إصلحي‬
‫أ – الكلمة المكتوبة‪:‬‬
‫إن كلمات الخير والحق والعدل‪ ،‬ليست محددة بعبارة موجزة تقال في مجلس‪،‬‬
‫ول محصـورة فـي عبارة هامسـة تقال فـي أذن‪ ،‬إن مـن تبسـيط المور المعقدة‪ ،‬أن‬
‫يظن النسان أن الكلمة محصورة في حديث شفوي‪ ،‬قد تطير به الريح‪ ،‬وقد يكون‬
‫مبهما يفتقر إلى الوضوح‪.‬‬
‫وليست محصورة في عالم‪ ،‬يطرق باب الحاكم حتى يصل إليه‪ ،‬ويفرغ ما في‬
‫جعبته من أفكار‪ ،‬ثم ينصرف وقد أحس وأحس الناس معه‪ ،‬أن ذمته وذمم الجميع‬
‫قد برئت‪.‬‬
‫ف قد تكون الكل مة خط بة فوق م نبر‪ ،‬من وا عظ أو داع ية‪ ،‬أو مث قف أو عالم‪،‬‬
‫وقد تكون مسرحية فوق خشبة مسرح‪ ،‬أو تمثيلية عبر شاشة تلفاز‪.‬‬
‫و قد أثب تت الكل مة المكتو بة اليوم تفوق ها في مجالت كثيرة على المنطو قة‪،‬‬
‫فمـن الممكـن أن تكون مقالة فـي صـحيفة‪ ،‬أو أفكار فـي كتاب‪ ،‬أو مشروعا فـي‬
‫رسـالة‪ ،‬أو تحقيقا صـحفيا‪ ،‬أو قصـيدة ثائرة‪ ،‬أو قصـة صـريحة هادئة‪ ،‬ثـم أثبتـت‬
‫الكل مة ( عبر ال صوت وال صورة ) أن ها أعلى من هات ين فرب صورة أو صوت في‬
‫قناة تلفازية أقوى من ألف كلمة‪.‬‬
‫ول ريـب أن لهـل الثقافـة‪ ،‬فـي ذلك دور كـبير‪ ،‬سـواء أكانوا أهـل صـحافة‬
‫وإعلم‪ ،‬أم أ صحاب رأي وف كر‪ ،‬أم أ هل أدب وش عر ون ثر‪ ،‬فال صلح المد ني معر كة‬
‫جهاد‪ ،‬يشترك في ها كل را جل وفارس‪ ،‬ب ما تدرب عل يه من سلح‪ ،‬فلعالم الشري عة‬
‫ذي الجتهاد الخاص بالمناسك‪ ،‬دور كلما ازداد فهمه وصار من أهل الجتهاد العام‬
‫فـي الشؤون المدنيـة‪ .‬وللعلماء الخـبراء مـن ذوي الجتهاد العام فـي شؤون المـة‬
‫وظائف‪ :‬لعالم ال سياسة دور م هم ووظي فة‪ ،‬ولعالم الجتماع وظي فة‪ ،‬ولعالم الترب ية‬
‫وظيفة‪ ،‬وللمؤرخ وظيفة‪ ،‬وللمهندس في الزرع كلمة‪ ،‬وللمهندس في المصنع كلمة‪،‬‬
‫وللمهندس المعماري والمدنـي كلمـة‪ ،‬وللداري مجال‪ ،‬وللمهندس الزراعـي مجال‬
‫آخر‪ ،‬وللتقني مجال آخر‪.‬‬
‫إن أحوج ما نحتاج إليه اليوم ‪ ،‬هم علماء الجتماع السياسي عامة ‪ ،‬وعلماء‬
‫التغيير الجتماعي خاصة ‪ ،‬متى ما كان لديهم ثقافة اسلمية‪.‬‬
‫‪40‬‬
‫ولقـد وجدت فـي العصـر الحاضـر‪ ،‬وسـائل عديدة مفيدة‪ ،‬وقنوات إعلميـة‬
‫عديدة‪ ،‬تناسب تعقيد العصر‪ ،‬ولذلك صار من المناسب أن يستغلها المجاهد المدني‪.‬‬
‫]‪[29‬‬
‫ب – من كلمة الفرد إلى كلمة الجماعة المبلورة‬
‫فى بيان أو خطاب عام‪:‬‬
‫إن من تبسيط المور اليوم أن تركز كلمة الجهاد‪ ،‬على كلمةعابرة من شخص‬
‫منفرد‪ ،‬بـل إن مـن الضروري أن تكون الكلمـة أيضا‪ ،‬فـي صـور أخرى‪ ،‬كأن تكون‬
‫بيان توقعه جماعة من الناس فى مذكرة مصوغة بفكر موضوعي‪ ،‬وأسلوب شعبي‪،‬‬
‫تذ كر ال سباب والنتائج‪ ،‬وتتحرى الموضوع ية في التحل يل‪ ،‬والوضوح في العرض‪،‬‬
‫والقناع فـي التدليـل‪ ،‬والصـدق فـي الطلب‪ ،‬والصـحة فـي المعلومات‪ ،‬وتعتمـد على‬
‫الحقائق والرقام‪ ،‬لكي تكون أحرى بالقبول والقناع‪.‬‬
‫وقصـر مفهوم الكلمـة على مـا يتبادر إلى الذهـن‪ ،‬مـن أنهـا كلمـة مـن فرد‪،‬‬
‫يجعلها سلحا غير كاف‪ ،‬أمام كثرة النوازل‪ ،‬وتعقيد الوقائع‪ .‬وليست الكلمة صرخة‬
‫احتجاج على وضع فاسد من واعظ بتحريم الربا‪ ،‬ودعوة إلى إلغاء بنوكه‪ ،‬ولو سئل‬
‫كيـف نصـنع؟ إذا أردنـا إنشاء بنـك إسـلمي‪ ،‬لقال ل أدري اسـألوا المختصـين كأنـه‬
‫يت صور البنوك ال تي يقوم علي ها اقت صاد الدولة م صانع خمور يم كن أن تحول خلل‬
‫أسابيع إلى مصانع عصير طماطم‪.‬‬
‫إذن ل ب ّد من المخت صين‪ ،‬ول بدّ أن تجت مع الكلمات‪ ،‬وتجت مع جهود الناس ‪،‬‬
‫ول سيما من النخبة ‪ ،‬الفقهاء وأساتذة الجامعات والمفكرين والمثقفين ‪.‬لتكون كلمة‬
‫الحـق معروضـة عرضا منطقيا علميا‪ ،‬يسـتند إلى صـحة المعلومات‪ ،‬وشرعيـة‬
‫الوسائل والغايات‪ ،‬وواقعية القتراحات والبدائل‪.‬‬
‫لن هذه الكلمة بهذا الشكل (حكمة) و(حنكة)‪ ،‬يعبّر بها المجاهدون المدنيون‬
‫عن وعي هم وواقعيت هم‪ ،‬وبذلك يقنعون من أراد القتناع‪ ،‬من الذ ين تلت بس علي هم‬
‫المور من الخاصة والعامة‪ ،‬من الباحثين عن الدليل والبديل‪ ،‬وفي ذلك حجة على‬
‫الباحث ين عن الشهوات فى ظلل الشبهات من الغافل ين والمتجاهل ين‪ ،‬والمخدوع ين‬
‫والخادعين‪.‬‬
‫إن مـن التبسـيط أن يظـن النسـان‪ ،‬أن الجهاد المدنـي فـي المور المعقدة‪،‬‬
‫مجرد كل مة عاطف ية جريئة‪ ،‬في إ صلح أمور الدولة الجليلة‪ ،‬كالقت صاد والترب ية‬
‫والسياسة‪ ،‬أجل ليس مجرد كلمة عابرة‪ ،‬بل هو كلمة مقنعة‪.‬‬
‫وكثيـر مـن أهـل الدعوة والصـلح‪ ،‬يشنـع بالواقـع الفاسـد‪ ،‬ويشيـر إلى‬
‫المشكلت‪ ،‬ول يقدم القتراحات‪ ،‬وهذا غفلة عـن السـلوب العملي الواقعـي‪ ،‬فقـد‬
‫يكون الحا كم الجائر في أحيان غ ير قليلة‪ ،‬م ستعدا لرضاء أ هل ال صلح‪ ،‬ولك نه‬
‫‪41‬‬
‫غير مقتنع هو ول مراكز قواه‪ ،‬بالمغامرة إلى المجهول في مثل قضية الربا‪.‬‬
‫ثم إن إ صلح أمور الدولة‪ ،‬يتطلب جهودا ضخ مة‪ ،‬ف هو يتطلب أو ًل أن يكون‬
‫طال بو ال صلح عارف ين ب ما هو المطلوب‪ ،‬وبالبد يل المنا سب‪ ،‬وبعوائق ال صلح‪،‬‬
‫وقادرين على طرح فكر موضوعي‪ ،‬يعالج المشكلت‪ ،‬فلنأخذ مثلً المناداة بالدستور‬
‫أو باسـتقلل القضاء‪ ،‬كـم تحتاج مـن الشرح والبيان‪ ،‬وتكاتـف الطالبيـن وتعاونهـم‬
‫وتكاثرهـم‪ ،‬وحاجتهـم إلى إقناع القوى التـي تعوق الصـلح ‪ ،‬مـن متشبثيـن‬
‫بمراكزهم ‪ ،‬ومن مستفيدين من الفساد ‪ ،‬ومن محافظين على عوائد متخلفة ‪ ،‬ومن‬
‫سادرين أمعيين‪.‬‬
‫]‪[30‬‬
‫ج ـ المشروع الصلحي يبدأ بالساسيات‪:‬‬
‫إن الشجاعة في النخبة ل تكفي ‪ ،‬فل بد لها من الخبرة ‪ ،‬والخبرة ينبغي أن‬
‫تدرك ما هو أساسي في المور ‪ ،‬إذا صلح أدى إلى صلح غيره‪ ،‬من أجل ذلك فإن‬
‫الحرص على صـلح التعليـم أو القتصـاد أو التربيـة أو الزراعـة ل يشفـع ‪ ،‬إذا لم‬
‫يدرك دعاة الصلح ‪ ،‬أن الصلح السياسي هو أساس صلح جميع المور ‪ ،‬وأن‬
‫الدعوة إلى الصلح السياسي تسبق كل شيء‪ ،‬والمسألة بسيطة‪.‬‬
‫أليـس الحكـم الجـبري الجائر هـو سـبب محننـا منـذ العصـر الموي؟‪ .‬أليـس‬
‫مقتضــى البيعــة على الكتاب والســنة لزوم العدالة والشورى؟‪ ،‬أليســت العدالة‬
‫والشورى شرطين فى الحكم‪ ،‬وكيف يتحققان من دون قيام النخب الثقافية ول سيما‬
‫الفقها‪ ،‬بانتزاع حرية الرأي والتعبير‪ ،‬عبر التجمع أولً‪.‬‬
‫]‪[31‬‬
‫د – نخبة( العرفاء )‪ :‬ينبغي أن تتقدم مشروع‬
‫الصلح السياسي‬
‫وبذلك يتـبين أن المـر بقول كلمـة الحـق‪ ،‬ليـس خاصـا بالفرد‪ ،‬بـل عام للفرد‬
‫والجماعة‪ ،‬ومن هنا تأتي أهمية التجمعات الهلية‪.‬‬
‫فل بدّ أن تتوا كب الكلمات‪ ،‬كي ت صبح مشار يع لل صلح‪ ،‬وذلك أ مر ل يم كن‬
‫أن يتحقـق‪ ،‬إل بتحول الكلمات الموجزة العابرة‪ ،‬إلى مشاريـع إصـلح عـبر البيانات‬
‫والمذكرات‪.‬‬
‫وهذا أمر يدعو إلى أن تتآلف الكلمات‪ ،‬على شكل مشروعات إصلح جزئية‪،‬‬
‫يشترك فيهـا كـل مختـص بمـا يسـتطيع‪ ،‬فتصـبح المشاورة والمراجعـة‪ ،‬عنصـرا‬
‫ضروريا ل سلمة الفكرة والو سيلة‪ ،‬وذلك أ مر يج عل كل مة الج مع أف ضل وأجدى من‬
‫كل مة الفرد‪ ،‬وهذا يش ير إلى أن التجمعات الهل ية‪ ،‬هي العوان على ال حق‪ ،‬الذ ين‬
‫‪42‬‬
‫ذكر الرسول صلى ال عليه وسلم أن فقدانهم يفشل بوادر المصلحين‪.‬‬
‫إن مـن يتأمـل أسـباب فشـل كثيـر مـن جهود الصـلح‪ ،‬يجـد أنـه يأتـي فـي‬
‫مقدمت ها‪ ،‬وأنها جهود فرد ية‪ ،‬لم تت خذ صيغ المشار يع العمل ية الواقع ية‪ ،‬إن ما كا نت‬
‫كلمات فردية‪ ،‬ل تشكل رأيا عمليا‪ ،‬ول تحظى بدعم جماعي‪.‬‬
‫وكثيـر مـن الناس يشعرون بالراحـة‪ ،‬عندمـا يعلمون أن فلنا قال كلمـة حـق‪،‬‬
‫لن فلنا قال ما يشعرون به‪ ،‬ولعل هم يشعرون بأن واجب هم أيضا قد تم‪ ،‬بل رب ما‬
‫ظنوا أن الن هي عن المن كر قد تم أيضا‪ ،‬ل نه فرض كفا ية‪ ،‬وبذلك سقط ال ثم عن‬
‫الباقيـن مـن السـاكتين‪ ،‬وهـم يقولون هذا دون أن يتأملوا أن كلمـة الحـق قـد قيلت‪،‬‬
‫ول كن المن كر ما ثل لم يزل‪ ،‬فإن برئت ذ مة قائل منفرد‪ ،‬يغرد خارج ال سرب‪ ،‬لم تبرأ‬
‫ذمة الساكتين‪.‬‬
‫وهذا يؤكـد أن قول كلمـة الحـق ل يكون مـبرئا للذمـة إل إذا زال السـوء‬
‫والباطل‪ ،‬ول يزول المنكر بقول أو مذكرة واقعية بل ل بد من تكاتف النخبة‪ .‬وهذا‬
‫يتطلب إذن أن تكون الكل مة المفردة جمعا بل تجمعا‪ ،‬من النخ بة وأ هل الخت صاص‬
‫وال خبرة من ذوى ال سمعة الح سنة‪ ،‬فى تخ صصهم و سلوكهم العا من الذ ين يتبع هم‬
‫الناس ويثقون بكلم هم‪ .‬هؤلء الذ ين يطلق علي هم فى الل غة العرب ية (العرفاء)‪ ،‬أي‬
‫الذيــن يتعرفون على اهتمامات الناس‪ ،‬ويصــدرهم الناس لتمثيلهــم وترســلهم‬
‫الجماعات للتعرف على ما يهمها‪ ،‬كما قال الشاعر ‪:‬‬
‫أو كلما وردت عكاظ قبيلة بعثوا الى عريفهم يتوسم‬

‫وهذا ما يؤكد وجوب التجمع الهلي المدني‪ ،‬من أجل الضغط على الحكومات‪،‬‬
‫لجبارهـا على تحسـين سـلوكها‪.‬ولذلك جاءت نصـوص الجهاد والمـر بالمعروف‬
‫بصيغة الجماعة‪ ،‬لن الخطاب لعامة المة‪ ،‬قال تعالى‪ :‬ولتكن منكم أمة يدعون إلى‬
‫المفلحون‪ .‬والية ظاهرة‬
‫‪‬‬ ‫الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم‬
‫تأ مر أن تش مل من الم سلمين فئة إ صلحية داع ية للخ ير‪ ،‬أي أن يكون ث مة تج مع‬
‫وتكتل أهلي‪ ،‬وهذا أقرب الحتمالت لمفهوم أمة‪.‬‬
‫ومعنى ذلك كما بيّن الصوليون أن فرض الكفاية‪ ،‬يصبح على القادرين عليه‬
‫فرض عيـن‪ ،‬فهـو بطـبيعته فـي أكثـر الحوال ل يؤديـه إل جماعـة أو تجمعات تقدر‬
‫عليـه‪ ،‬كالجهاد والمـر بالمعروف والنهـي على المنكـر‪ ،‬وهـو على هذه الجماعـة‬
‫فرض عيـن‪ ،‬وبذلك تصـبح كلمـة الحـق والخيـر والعدل واجبا عينيا‪ ،‬على الناس‬
‫جميعا‪ ،‬ول سـيما القرب إلى صـفة ( العرفاء ) كالمثقفيـن والمفكريـن والعلماء‬
‫والفقهاء وأساتذة الجامعات ورجال الصحافة والفكر‪ ،‬والمختصين في الميادين التي‬
‫يش يع في ها المن كر‪ ،‬وهذا ما عناه الشاف عي رح مه ال بقوله‪« :‬إن الوا جب الكفائي‬
‫مطلوب على العموم‪ ،‬مراد على و جه الخ صوص» (أ صول الف قه ل بي زهرة‪-38 :‬‬
‫‪43‬‬
‫‪ ،]36‬أي أنه مطلوب من المسلمين كافة‪ ،‬ولكن الذي يقوم بهم هم القادرون عليه‪.‬‬
‫أي أنـه فرض عيـن على القادر عندمـا يقوم بالمبادرة‪ ،‬وفرض عام على الباقيـن‬
‫الذ ين ي جب علي هم أن يعينوا المبادر ين‪ ،‬وهذا الت صور ل ي تم دون تنفيذه اليوم من‬
‫دون تجمعات التجمعات الهلية المدنية‪.‬‬
‫]‪[32‬‬
‫هـ ـ من تكتل النخبة إلى التكتل الشعبي‪:‬‬
‫إن الفكار الصـحيحة ‪ ،‬مهمـا كانـت واضحـة فـى رؤوس النخبـة‪ ،‬ل تسـتطيع‬
‫التاثير على حركة الناس‪ ،‬ما لم تحملها الجماهير ‪ ،‬كما اشار المفكر مالك بن نبي‬
‫في (الظاهرة القرآنية) ‪.‬‬
‫من أ جل ذلك ينب غي أن تنزل النخ بة إلى الشارع‪ ،‬وأول أداة ل ها هو وضوح‬
‫الخطاب‪ ،‬كثير من الكاديميين من من تعودوا التدريس فى الجامعات أو العكوف فى‬
‫مرا كز البحاث‪ ،‬يكتبون بل غة أكاديم ية تخ صصية‪ .‬وهذه الكتا بة ل تحرك الجماه ير‪،‬‬
‫الذي يحرك الجماه ير هو الخطاب الوا ضح الب سيط على عم قه‪ ،‬الذي يل حظ طري قة‬
‫القرآن الكريـم فـى المزج بيـن خطاب العقـل والوجدان‪ ،‬وثانـي ذلك دفـع الثمـن‪،‬‬
‫فالجماه ير ل تقتنع بصدق المطالب ين بالصلح‪ ،‬إذا لم يصبروا على أذى ال سلطان‪،‬‬
‫وقـد ل تقرأ مطالبهـم‪ ،‬إل عندمـا يدخلون السـجن‪ ،‬ومـن أجـل ان تحمـل الجماهيـر‬
‫الفكار‪ ،‬ل بد أن ي صبر النخ بة على المتحان‪ ،‬و صدق ال العظ يم " وجعلنا هم أئ مة‬
‫يهدون بأمرنا لما صبروا"‪.‬‬
‫وحر ية التج مع والجتماع حق للن سان في الدولة ال سلمية‪ ،‬حق يكت سبه‬
‫النسـان ذاتيـا‪ ،‬ل يحتاج إلى اسـتئذان أحـد‪ ،‬ول يجوز للدولة أن تنقـص منـه ‪ ،‬فإن‬
‫انتقصـته أو منعتـه‪ ،‬فمنعهـا إياه منكـر يجبـب أن تتضافـر المـة لنكاره‪،‬إذ ل يجوز‬
‫للفرد ول الجماعات التنازل ع نه‪ ،‬لن قيام الم سلمين بالتعاون للت عبير عن مشا عر‬
‫أو مصالح خاصة بجماعة ‪ ،‬أو عامة بالمة من حقوق الناس ول يمكن قيام الناس‬
‫بفرائض السلم ‪ ،‬والمر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪ ،‬من دون تجمعات‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫]‪[33‬‬

‫المقالة التاسعة‬
‫سلم الصلح السياسي‪:‬‬

‫أفكار ونخبة ومواقف‬

‫وتكتل شعبي‬
‫أ – سبب الخفاق ‪:‬‬
‫إن النسـان المفرد‪ ،‬قـد يغامـر ويخاطـر‪ ،‬فيقول كلمـة الحـق والعدل‪ ،‬أمام‬
‫السـلطان الجائر‪ ،‬ولكـن الصـوت المنفرد‪ ،‬نادر الجدوى فـي أغلب الحالت‪ .‬وأقوى‬
‫منـه صـوت الفراد المتعاونيـن وأكثـر جدوى‪ ،‬وقـد يزيـل صـوت الرهـط بعـض‬
‫المنكرات‪ ،‬و قد يح مي داع ية الق سط ‪ ،‬ك ما قال تعالى " لول ره طك لرجمناك " ول كن‬
‫الجمع القليل‪ ،‬ل يستطيع في أكثر الحالت أن يزيل سوءا ول جورا‪.‬‬
‫ولن ت تم إزالة المنكرات الجوهر ية‪ ،‬في ال مة‪ ،‬ال تي تشرع ها دول ال ستبداد‬
‫والجور‪ ،‬إل بم ساندة الرأي العام‪ .‬فالرأي العام إذا ض غط وطالب‪ ،‬ي صل إلى مرا مه‪.‬‬
‫أجل كثير من جماهير الرأي العام غير قديرين على صياغة الكلمة‪ ،‬أو غير قادرين‬
‫على بلورت ها‪ ،‬و قد يخ فى علي هم ال مر‪ ،‬فيحتاجون إلى من ينبه هم ويب صرهم‪ ،‬إن هم‬
‫يدركون أن الج سد مر يض‪ ،‬ولكن هم قد ل ي ستطيعون تحد يد الداء‪ ،‬ولو حددوه‪ ،‬ل ما‬
‫ا ستطاعوا و صفه‪ ،‬ولو ا ستطاعوا و صفه ل ما ا ستطاعوا تحد يد العلج‪ ،‬ول كن هذا‬
‫دور النخبة‪.‬‬
‫النخبة المصلحة فى كل مجتمع تقوم بدورين‪ :‬الول‪ :‬الكلمات‪ :‬تحديد المرض‬
‫ال ساس‪ ،‬وفرزه عن العراض والمضاعفات ‪ ،‬وتقد يم‪ ،‬مشروع إ صلحي الثا ني ‪:‬‬
‫المواقـف ‪ :‬فتجسـد الكلمات بالمواقـف ‪ ،‬مـن خلل صـبرها على الخوف والفزع ‪،‬‬
‫واستعدادها للتضحية بالوظيفة والراحة والنفس ايضا ‪ ،‬واستعدادها لدخول السجن‬
‫‪ .‬فهذا هو شرط النخبة التي تجنح بمواقفها الكلمات على غرار قول الشاعر ‪:‬‬
‫جسرا فقل لرفاقنا أن يعبروا‬ ‫إنا جعلنا للخلص جسومنا×‬

‫‪45‬‬
‫فالناس على كـل حال يحتاجون إلى مـن يبادر ويتقدم‪ ،‬لنهـم إن لم يسـتطيعوا‬
‫بلورة الفكار‪ ،‬أو إنشاء الحلول‪ ،‬لم يفتهـم أن ينصـروا الفرد والرهـط‪ ،‬حتـى تصـل‬
‫الكلمة إلى أذن السلطان‪ ،‬قوية مسموعة‪.‬‬
‫وكل من الفرد والرهط والجمع القليل‪ ،‬والتجمع الهزيل‪ ،‬أعزل معرّض للذى‪،‬‬
‫ف هو معرّض لق طع الرزاق تارة‪ ،‬ولق طع العناق تارة أخرى ول ب ّد من منا صرته‪،‬‬
‫ـي ظهره‪ ،‬كالجهاد‬ ‫ـي ل يقوم بقائد أو رائد‪ ،‬إذا لم يشدد أزره‪ ،‬ويحمـ‬ ‫فالجهاد المدنـ‬
‫العسكري‪ ،‬ل يقوم بمجرد قائد بارع‪.‬‬
‫إن مـن أخطائنـا الثقافيـة والجتماعيـة الكـبرى‪ ،‬أن نركـز على شخصـية قائد‬
‫ملهم ‪ ،‬أو بطل منقذ‪ ،‬ونتجاهل سنن ال الجتماعية‪ ،‬التي تعلمنا أن الجماهير هي‬
‫ال تي تغ ير مجاري أنهار الحضارات وال مم‪،‬وهذا يؤ كد أهم ية الع مل الجما عي في‬
‫ـخ على هذه‬ ‫ـد التاريـ‬‫ـد شهـ‬ ‫ـلم‪ ،‬الذي يقوم بالتعاون على البر والتقوى‪ ،‬وقـ‬‫السـ‬
‫القضيـة‪ ،‬بأن قولة كلمـة الحـق‪ ،‬مـن المفرد والرهـط والجمـع القليـل‪ ،‬تتعرض‬
‫للمصادرة والستئصال‪ ،‬فتذهب وكأنها صرخة في واد‪ ،‬أو نفخة في رماد‪.‬‬
‫لقد سجل التاريخ السلمي‪ ،‬مواقف مئات الفراد التي نادت بالصلح‪ ،‬ولكن‬
‫جهودها لم تؤد إلى التغيير المنشود‪ ،‬إذن ليست القضية إذن موقف فرد أو رهط أو‬
‫جمـع قليـل أو تجمـع هزيـل‪ ،‬يقدم نصـيحة جريئة‪ ،‬فيهان أو يضايـق أو يسـتشهد‪،‬‬
‫وتستمر عجلة سلطة الجور والستبداد‪ ،‬في مزيد من الفساد‪.‬‬
‫والذي يتأمل الجهود الخيرة‪ ،‬عبر التاريخ السلمي‪ ،‬يمكن أن يستنبط أسباب‬
‫إخفاقها‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن ها جهود فرد ية‪ ،‬وجهود الفراد قد ت ستطيع أن تتحدى التيار مرة أو‬
‫مرت ين‪ ،‬ولكن ها ل ت ستطيع أن ت ستمر‪ ،‬فضلً عن أن تغ ير مجرى الن هر‪ ،‬إذا و قف‬
‫الناس حولها يتفرجون‪ ،‬واكتفوا بالتأييد الصامت الساكن‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن ها ل تدرك أن الجماه ير يؤيدون عاط فة ل عمل‪ ،‬والف ساد لن ي خف‪،‬‬
‫مهمـا صـلى الناس على جنازة المجاهـد المدنـي والمصـلح السـياسي الجتماعـي‬
‫بمئات اللوف‪ ،‬ومهمـا قبّلوا جـبينه كلمـا لقوه‪ ،‬ومهمـا احتشدوا لزيارتـه وسـماع‬
‫كلمه‪ ،‬ومهما أحيوا الليل بالصلوات والدعاء له في القنوت‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ هذه ت عبيرات طي بة وجدان ية محمودة‪ ،‬ولكن ها ردود ف عل وقت ية‪ ،‬وغفلة‬
‫عـن السـلوب الشرعـي لمقاومـة الجور والفسـاد لنهـا غيـر عقلنيـة ول عمليـة‬
‫حركيـة‪ ،‬وهـي تندرج فـي خداع النفـس بإنكار المنكـر بالقلب‪ ،‬واسـتسلم الجسـد‬
‫والروح لقوى الفسـاد‪ ،‬وعندمـا ل تكون جهود الفراد‪ ،‬مدعومـة بأعوان الحـق‪،‬‬
‫تضيع كلمة الحق عبر الرياح‪.‬‬
‫‪ 4‬ــ ولن ها جهود الصـلح في الغلب تت جه ن حو الحا كم الفرد‪ ،‬فتجاب هه‬
‫‪46‬‬
‫بشجا عة وتضح ية‪ ،‬ولكن ها قد ت ستفزه وت ستثير خو فه وغض به معا‪ ،‬فيزداد ظلما‬
‫وبطشا‪ ،‬وتزداد قوى الصلح ذلً وتهميشا‪.‬‬
‫لن جهود ال صلح‪ ،‬لم تبت كر ال سلوب العملي ل صلح ال سلطة‪ ،‬عبر إقا مة‬
‫التجمعات الهل ية المدن ية‪ ،‬المعن ية بالشأن العام‪ ،‬كهيئات ال مر بالمعروف والن هي‬
‫عن المن كر‪ ،‬فى ش قي الشري عة المد ني والرو حي م عا‪ .‬وجمعيات حقوق الن سان‪،‬‬
‫وروابــط العلماء‪ ،‬والجمعيات المعنيــة بشأن خاص‪ ،‬يخدم تلقائيــا الشأن العام‪،‬‬
‫كنقابات أ هل الم هن‪ ،‬وجمعيات العمال وجمعيات الفلح ين والتجار والعاطليـن عـن‬
‫العمـل‪ ،‬ولم تتجـه إلى الصـلح السـتراتيجي‪ ،‬مثـل هذه المور تمتاز بمـا هـو‬
‫أساسي‪ ،‬الذي يؤدي تغييره إلى تغيير مؤسسي في الحياة السياسية والجتماعية‪،‬‬
‫‪ 5‬ــ إن مـن أهـم أسـباب الخفاق‪ ،‬النظرة التقليديـة للرأي العام‪ ،‬فقـد درج‬
‫كث ير من أ هل العلم‪ ،‬على ت صوير قوة الرأي العام‪ ،‬بأن هم ه مج رعاع‪ ،‬يضرون إذا‬
‫اجتمعوا‪ ،‬وينفعون إذا تفرقوا‪ ،‬فانفصـل الجمهور الصـالح عـن القلة المصـلحة‪،‬‬
‫و صاروا يؤيدو ها بالقلوب‪ ،‬ساكتين ساكنين‪ ،‬و هم بأيدي هم يؤيدون البا طل‪ ،‬بل إن‬
‫كثيرا من هم يدخلون في إطار أعوان الظل مة‪ .‬وكث ير من هم من الشياط ين الخرس‪،‬‬
‫وكثير آخر ل يختلف عن الظلمة في نوع الظلم ‪ ،‬بل في الدرجة ‪ ،‬فقادة الظلم في‬
‫الدرك العلى وأولئك في الدرك السفل‪.‬‬
‫]‪[34‬‬
‫ب – أهمية الرأي العام في السلم‪:‬‬
‫وتحقير الشعب نظرية‪ ،‬ل أصل لها في الشريعة‪ ،‬فالمصلح إذا لم يكن لديه‬
‫ر هط يعي نه ويحم يه‪ ،‬لضاع في وادي الن سيان‪ ،‬وكذلك كان ال نبي صلى ال عل يه‬
‫لرجمناك وقد‬
‫‪‬‬ ‫وسلم‪ ،‬لول رهط بني هاشم‪ ،‬وكذلك شعيب لول عصبيته ‪‬ولول رهطك‬
‫أشار الحد يث الشر يف إلى صعوبة مه مة الم صلحين الذ ين ل يجدون أعوانا على‬
‫الخير‪ ،‬لقد أبعدت عامة الناس عن خطاب الصلح‪ ،‬فتمسكوا بالتقاليد‪ ،‬وغفلوا عن‬
‫مقاصـد الشريعـة‪ ،‬واسـتسلموا لكـل طاغيـة‪ ،‬فصـاروا أداة فـي يـد الحاكـم الجائر‪،‬‬
‫يحارب بهـم كـل إصـلح‪ ،‬ويشكـل رأيهـم حسـب هواه‪ ،‬وذلك أمـر أدى إلى اغتيال‬
‫المجتمـع‪ ،‬ودمار البلد وهلك العباد‪ ،‬وغلبـة قوى السـتعمار‪ ،‬وأفضـى بالدول‬
‫والحضارات إلى الزوال‪.‬‬
‫الرأي العام ‪ :‬ثلثة أنوع ‪:‬‬
‫والرأي العام الخامـل‪ :‬هـو الرعاع الذي يسـتمد الطغاة مـن صـمته قوة‪،‬‬
‫فيضربون دعاة القسط والشورى‪.‬‬
‫النوع الهوج‪ :‬وهو متحرك من دون تنظ يم‪ ،‬من دون ا ستراتيجبة‪ ،‬تعبيرات‬
‫ومواقـف آنيـة‪ ،‬لم تتأمـل الخريطـة قبـل ركوب الراحلة‪ ،‬ولم تقدر مسـافة السـفر‬
‫‪47‬‬
‫ومشقته‪.‬‬
‫الراي العام الواعـي المتكتـل‪ ،‬وهوالواعـي بالمفاهيـم‪ ،‬المتكتـل فـي تنظيـم أو‬
‫شبه تنظيم‪ ،‬فهذا كما قال ( ميرابو ) هو الضمان النهائي ‪ ،‬ضد استبداد كل حاكم (‬
‫النظمة السياسية ‪ /‬يحيى الجمل ‪.) 123 :‬‬

‫فللرأي العام أو عا مة الناس‪ ،‬دور في الجهاد المد ني ال سلمي خا صة وال مر‬


‫بالمعروف والن هي عن المن كر عا مة‪ ،‬ول ي تم جهاد ول أ مر بفضيلة ول ن هي عن‬
‫رذيلة مـن دونـه‪ ،‬وعلى أن المـر مقرر مـن كليات الشريعـة ومقاصـدها‪ ،‬فلعـل مـن‬
‫المناسب أن نزيد توضيحه‪.‬‬
‫]‪[35‬‬
‫ج – التجمع السياسي الهلي فريضة شرعية‪:‬‬
‫إن ن صوص الجهاد وال مر بالمعروف‪ ،‬جاءت أوا مر عا مة تخا طب الجما عة‪،‬‬
‫فهي لم تخاطب الفقهاء ول المراء بل خاطبت الشعب مباشرة‪.‬‬
‫يقول ال تبارك وتعالى‪ :‬ولتكــن منكــم أمــة يدعون إلى الخيــر ويأمرون‬
‫المفلحون‪.‬‬
‫‪‬‬ ‫بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم‬
‫فالخطاب مو جه إلى جم يع ال مة‪ ،‬و هو يطلب من ال مة ( العا مة ) أن تنتدب‬
‫أمة ( خاصة ) أي ( فئة ) قوية إلى الصلح والخير والمعروف‪ ،‬أي طائفة أو فرقة‬
‫أو جماعـة أو جمعيـة‪ ،‬والمـة المطلوب تكوينهـا‪ ،‬ل يكفـي فـي التعـبير عنهـا أنهـا‬
‫جما عة‪ ،‬بل إن ما هي تج مع وتك تل‪ ،‬وجمعيات حقوق الن سان من ال مر بالمعروف‪،‬‬
‫والن هي عن المن كر‪ ،‬فل من كر أف ظع من الظلم وال ستبداد ‪ ،‬ول معروف أر فع من‬
‫العدل والشورى‪ ،‬وجمعيات القتصاد والزراعة والتجارة والعمال والمدرسين‪.‬‬
‫قرر العلماء أن المـر بالمعروف والخيـر مـن فروض الكفايـة‪ ،‬كالقضاء‬
‫والفتاء‪ ،‬وإنشاء المصانع والمزارع‪ ،‬وبناء المرافق العامة‪ ،‬إذا قام بها ما يكفي‬
‫من جماعات وتجمعات‪ ،‬برئت ذمة الجميع‪.‬‬
‫و من البدي هي أن فرض الكفا ية‪ ،‬وإن خو طب به جم يع أفراد ال مة‪ ،‬ل ي جب‬
‫القيام بـه إل على مـن تأهـل له وقدر عليـه‪ ،‬فعلج المرضـى‪ ،‬ل يقدر عليـه الفلح‬
‫الذي لم تتجاوز خبرته إطار الزرا عة‪ ،‬والقضاء ب ين الناس ل يقدر عل يه إل الفق يه‬
‫الفطن‪ .‬فكيف يكون ذلك فرضا على الجميع؟‬
‫ـع‬‫ـة‪ ،‬يدلّ على أن ذلك فرض على جميـ‬ ‫ـة المـ‬‫ـه لجماعـ‬ ‫إن الخطاب الموجـ‬
‫المكلفيـن‪ ،‬فكيـف يكون دورهـم؟ إن دورهـم يتمثـل فـي قيامهـم بمسـاعدة العناصـر‬
‫القادرة على أداء الوا جب ( مباشرة )‪ ،‬من خلل تذل يل العقبات ‪ ،‬ومؤزرت ها بالمال‬
‫والنفس والنصح والجهد‪.‬‬
‫‪48‬‬
‫وهذا معنـى قول الشافعـي رحمـه ال فـي تعريـف واجـب الكفايـة فقال‪( :‬إن‬
‫الواجـب الكفائي مطلوب على العموم‪ ،‬ومراد بـه وجـه الخصـوص) كمـا أشرنـا فـي‬
‫مقالة سابقة‪.‬‬
‫فجماعـة المـة كلهـا مطالبـة بتهيئة السـباب‪ ،‬والتعاون على البر والتقوى‪،‬‬
‫ليقوم نظامهـا الجتماعـي‪ ،‬وتحفـظ كيانهـا‪ ،‬وإذا لم يقـم الناس بالتعاون وتهيئة‬
‫السباب للفئات القادرة أثم الجميع‪ ،‬ما دام المنكر قائما‪ ،‬والمعروف مطموسا‪.‬‬
‫و قد و ضح الشا طبي في الموافقات هذا المع نى فذ كر‪" :‬إن القيام بالفرض قيام‬
‫بمصلحة عامة‪ ،‬وهم ]أي جماعة المة[ مطالبون بسدها على الجملة‪ ،‬فبعضهم قادر‬
‫عليها مباشرة‪ ،‬وذلك من كان لها أهلً‪ ،‬والباقون وإن لم يقدروا عليها قادرون على‬
‫إقامـة القادريـن"‪ .‬فالقادر إذن مطالب بإقامـة الفرض بنفسـه لنـه أهـل لذلك‪ ،‬وغيـر‬
‫القادر مطالب بتقديم ذلك القادر‪ ،‬إذ ل يتوصل القادر إلى أداء الواجب إل إذا أعانته‬
‫الجماعة‪.‬‬
‫وذلك بناء على القاعدة ال صولية " ما ل ي تم الوا جب إل به ف هو وا جب" قال‬
‫أبو زهرة «القادر عليه أن يقوم بالعمل بالفعل‪ ،‬وغير القادر؛ عليه أن يمكّن القادر»‬
‫(أصول الفقه‪.)38 :‬‬
‫فإذا قام القادر بإنكار المنكر‪ ،‬ولم يزل المنكر‪ ،‬فقد برئت ذمته – وحدها – إن‬
‫كان ذلك النكار نهايـة اسـتطاعته‪ ،‬وأثمـت ال مة‪ ،‬لنهـا لم تتضامـن معـه فـي إنكار‬
‫المنكـر‪ ،‬وإن زال المنكـر‪ ،‬برئت ذمـة الجميـع كمـا قال الزحيلي «لن الواجـب على‬
‫المـة‪ ،‬أن تعمـل بمجموعهـا على أن يؤدي الواجـب الكفائي فيهـا‪ ،‬فالقادر بنفسـه‪..‬‬
‫على أداء الواجـب الكفائي عليـه أن يقوم بـه‪ ،‬وغيـر القادر عليـه أن يحـث القادر‬
‫ويحمله على القيام به‪ ،‬فإذ أدى القادر الواجب؛ سقط الثم عنهم جميعا‪ ،‬وإذا أهمل‬
‫أثموا جميعا‪ ،‬فيأثـم القادر‪ ،‬لهماله واجبا قدر على أدائه‪ ،‬ويأثـم غيره لهماله حـث‬
‫القادر‪ ،‬وحمله على فعل الواجب‪ ...‬وهذا التضامن في أداء الواجب الجتماعي الذي‬
‫جاءت به الشريعة السلمية» (أصول الفقه للزحيلي‪ )63/1 :‬مبدأ التضامن عظيم ‪،‬‬
‫والتجمعات الهلية المدنية اليوم‪ ،‬أكثر وسائله نجاحا‪.‬‬

‫‪49‬‬
50
‫]‪[36‬‬

‫المقالة العاشرة‬
‫نموذج الفقيه في العصر الموي‪:‬‬
‫مصلح سياسي‬

‫كيف تحول إلى مؤلف متنسك ؟‬


‫أ – غفلة كثير من الفقهاء عن أولوية الصلح‬
‫السياسي‪:‬‬
‫كانت أغلبية الفقهاء فى العصر الموي ‪ ،‬حتى مطلع العصر العباسي مدركة‬
‫أولويـة الصـلح السـياسي والقتصـادي والمالي والداري‪ .‬ولذلك كانـت لعموم‬
‫الفقهاء مواقف جرئية فى الصلح السياسي ‪ .‬بيد أن عتو الدولة وجبرها تنامى ‪،‬‬
‫وأخفقـت مسـاعي فقهاء العصـر الموي فـى لجـم الطغيان‪ ،‬فعانىالفقهاء مـن‬
‫الخفاق‪ ،‬فجرهم ذلك إلى اليأس والحباط‪ ،‬فجرهم الحباط التعايش مع الفقر والجبر‬
‫والجور والسقاط‪.‬‬
‫وظهـر ذلك فـى مواقـف كثيـر مـن الفقهاء والمتدينيـن منـذ العصـر العباسـي‬
‫(الثا ني )‪ ،‬اهتموا بش طر الشري عة الول الرو حي الخاص‪ ،‬المتج سد باليمان بالغ يب‬
‫وشعائر المناسك‪ ،‬من من غفلوا عن قدر شطر الشريعه الثاني المدني‪ :‬إقامة الدولة‬
‫الشورية العادلة‪ ،‬على أن إقامتها هي أساس وأصل الحكم بما أنزل ال من فرائض‬
‫العدالة والشورى والتكافـل والتضامـن والمسـاواة والكرامـة والحريـة والتعدديـة‪،‬‬
‫ونحوها من مكارم الخلق‪.‬‬
‫ون سوا أن من ا ستبد وجار واضط هد وق مع وأن شأ الطبقات وأذل المواطن ين‪،‬‬
‫ف قد ح كم بغ ير ما أنزل ال من عدالة وحر ية وكرا مة وم ساواة وتعدد ية‪ .‬وآمنوا‬
‫ببعض الكتاب وكفروا ببعض وهم ل يشعرون‪.‬‬
‫فمزقوا وحدة الديـن وهـم ل يعلمون‪ ،‬وأخلوا بشهادة التوحيـد (ل إله إل ال)‬
‫وهم ل يدركون‪ .‬ونسوا قول ال ‪‬ومن لم يحكم بما أنزل ال فأولئك هم الكافرون‪.‬‬
‫والشري عة ج سد وا حد كالن سان ل ين هض على ر جل واحدة‪ ،‬ك ما بيّن المام‬
‫الشاطـبي فـي كتابيـه (العتصـام والموافقات)‪ ،‬فل تمام للنسـان‪-‬مـن دون رجليـن‬
‫‪51‬‬
‫اثنتين‪-‬إذا كان أعرج يحاول أن يمشي برجل واحدة‪:‬‬
‫وما تنفع الرجلن رجل صحيحة × ورجل رمى فيها الزمان فشلت‬
‫إن تركيـز السـلم فـي شـق العبادة المحضـة الخاصـة‪ ،‬إخلل عظيـم بمقاصـد‬
‫السـلم الكـبرى‪ ،‬فللعبادة المحضـة الخاصـة‪ :‬شعائر كالصـلة والصـوم والحـج‬
‫والدعاء‪ ،‬ووظيفة هذه العبادة الخاصة هي الترقي الروحي‪ ،‬من عالم الشياطين إلى‬
‫عالم المل العلى‪ ،‬تشبها بالملئكة‪ ،‬ولكن رقي الروح ل يكون من دون رقي مدني‪،‬‬
‫يجسـد شطـر الشريعـة الثانـي‪ ،‬فالرقـي المدنـي هـو العبادة العامـة غيـر المحضـة ‪،‬‬
‫وأركان الد ين العا مة‪ ،‬هي ما ل ي ستقر مجت مع دون ها ول ي ستمر‪ ،‬أ ساسها شجرة‬
‫العدالة‪ ،‬وشجرة العدالة ل تنمو إل فى حوض الشورى‪.‬‬
‫وكـل مـا أجمعـت عليـه النسـانية الراقيـة‪ ،‬مـن أمور المعائش‪ ،‬وبناء المدن‬
‫والدول‪.‬‬
‫فما هو ضروري لحياة الناس ؛ إنما هو من الشريعة ‪ ،‬وكل ما ل تقوم حياة‬
‫الناس إل بـه فهـو معدود فـى اصـول الديـن ‪ ،‬كمـا شرح الشاطـبي هذه القاعدة فـى‬
‫الموافقات‪ ،‬وبرهـن تاريـخ الحضارات ‪ ،‬على أن المـم إنمـا تسـتقر وتنتصـر بالعدل‬
‫والشورى‪ ،‬إن كانـت كافرة وأنهـا تتخلخـل وتنهزم بالظلم والسـتبداد ولو كانـت‬
‫اسلمية ‪ ،‬وهذا برهان على أن العدالة والشورى من أصول الدين الكبرى‪.‬‬
‫العدالة هـي عنوان المانـة‪ ،‬وهـي أسـاسها‪ ،‬ولذلك فإن تردي العدالة‪ ،‬يؤدي‬
‫إلى التخلف المدني‪ ،‬والتخلف المدني يفضي إلى الضياع الروحي‪ ،‬وهذا ما د ّل عليه‬
‫الحد يث الشر يف‪« :‬أول ما تفقدون من دين كم الح كم‪ ،‬وآ خر ما تفقدون ال صلة»‪،‬‬
‫والر سول صلى ال عل يه و سلم ل يق صد بالح كم الح كم ال صحراوي العضوض الذي‬
‫استمر منذ العهد الموي ‪ .‬بل يقصد الحكم الشوري‪.‬‬
‫وهكذا فإن دركات تخلف ال مة بدأت بفقدان الح كم الشوري‪ ،‬الذي‪ -‬من دو نه‬
‫ل يضمـن العدل‪ ،‬بدأت البدعـة الكـبرى فـي حياة المـة؛ بفترة العصـر الموي‪ ،‬ثـم‬
‫تناثرت خرزات شق الشري عة المد ني خرزة ب عد أخرى‪ ،‬ح تى انفرط الع قد ‪ ،‬وبق يت‬
‫الخل فة كالتمثال الفارغ ‪ ،‬فجاء الت تر والفر نج فألقوا التمثال فى الهباءة‪ .‬فضا عت‬
‫ال صلة‪ .‬وا ستمر الم سلمون في وادي الضياع‪ ،‬فأُخرجوا من الندلس‪ ،‬ونُ صّر من هم‬
‫من ب قي هناك‪ ،‬و صاروا مر عى للف كر الشيو عي والعلما ني المل حد أو الفا جر‪ ،‬في‬
‫العصر الحاضر‪.‬‬
‫وقد تجد كثيرا من الفقهاء والمتفقهين‪ ،‬حريصين على أمور العبادة الروحية‪،‬‬
‫يلتزمون كـل واجـب ومندوب‪ ،‬ويجانبون كـل محرم ومكروه‪ ،‬وقـد تجـد لهـم ورعا‬
‫كثيرا فـي المباح‪ ،‬وتجـد لهـم فـي الصـبر على العبادة الروحيـة تجلدا ظاهرا‪ ،‬كقيام‬
‫الليـل والصـيام‪ ،‬ولكنهـم فـي العبادة المدنيـة مقصـرون تقصـيرا ظاهرا‪ ،‬فل تتمعـر‬
‫‪52‬‬
‫وجوههم إذا رأوا منكرا فاشيا كالظلم والرشوة والمحسوبية‪ ،‬وشفاعة السوء‪ ،‬وإنما‬
‫سلحهم‪ :‬الشكوى إلى ال أوالتنديد بفساد الزمان‪.‬‬
‫يقولون الزمان به فساد × وهم فسدوا وما فسد الزمان‬
‫لنهـم يجهلون أن قيمـة كـل عبادة فـي السـلم‪ ،‬إنمـا هـي بحسـب آثارهـا‬
‫ونتائجها‪ ،‬وعلى ذلك يكون ترتيب سلم القيم‪ ،‬كما بيّن الشاطبي في الموافقات‪ ،‬وهذا‬
‫يتطلب تجديدا فى الخطاب الديني‪ ،‬ينظم كبائر الطاعات والمعاصي والولويات حسب‬
‫النصـوص الشرعيـة‪ ،‬ونتائجهـا فـى الحياة‪ .‬سـئل المام أحمـد عـن الرجـل يصـوم‬
‫وي صلي ويعت كف أم يتكلم في أ هل البدع؟ فقال‪« :‬إذا قام و صلّى واعت كف فإن ما هو‬
‫لنفسه‪ ،‬وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين‪ ،‬هذا أفضل» (فتاوى ابن تيمية)‬
‫كلم المام هذا في الولويات المستحبة‪ ،‬فما بالك بالولويات الساسية‪.‬‬
‫مـن اكثـر الناس اخلل بالديـن‪،‬فقيـه صـالح بنفسـه‪ ،‬يهتـم بالنوافـل الروحيـة‬
‫الفردية‪ ،‬ويهمش الفرائض المدنية والسياسية‪.‬‬
‫وإن من العجيب أن تجد كثيرا من التجاهات التي يلمزها الفقهاء والمتفقهون‬
‫– بال حق والبا طل ‪ -‬بالقوم ية والعلمان ية والي سارية‪ ،‬تت صدرون لل صلح المد ني‪،‬‬
‫فتبنـي الجامعات وتنشـئ المسـتشفيات ومراكـز الخدمات‪ ،‬وتقيـم بروج القتصـاد‬
‫والتجارة‪ .‬وتجابـه اسـتبداد السـلطة وجورهـا‪ ،‬وتتحمـل الفصـل والسـجن والعذاب‬
‫والقتل‪ ،‬في سبيل الفكار والمبادئ التي تؤمن بها‪ ،‬وأن تجد كثيرا من القراء‪ ،‬الذين‬
‫يتلون كتاب ال‪ ،‬آناء الليـل والنهار‪ ،‬صـرعى وصـفة أضعـف اليمان‪ ،‬يتعايشون مـع‬
‫السـتبداد والظلم وهـم يعلمون مـا للكلمـة والوقفـة الصـلحية التـي تطالب بالعدالة‬
‫والشورى من أجر عظيم‪.‬‬
‫بـل مـن المحزن المؤسـف‪ ،‬أن تجـد شجاعـة وصـبرا للمجرميـن واللصـوص‬
‫ومروجـي المخدرات‪ ،‬حيـن يواجهون السـجون والقتـل والعذاب‪ ،‬وهـم يسـعون فـي‬
‫سـبيل شهواتهـم‪ ،‬وهـم يعلمون أن لهـم الخزي فـي الدنيـا والخرة‪ ،‬وأن تجـد أهـل‬
‫ال صلح‪ ،‬يجبنون عن إعلن ال حق‪ ،‬ويزعمون أن هم قد أنكروا بقلوب هم‪ ،‬و هم وال‬
‫واهمون‪ ،‬فلو صـدقوا فـي مـا زعموه مـن إنكار القلوب‪ ،‬لظهرت العلمات على‬
‫الجسـاد والرواح‪ ،‬فإن القلب إذا اشتعـل‪ ،‬بان على الجوارح اللهيـب‪ ،‬وارتفـع فـي‬
‫الفق الدخان‪.‬‬
‫هذا محال فى القياس شنيع‬ ‫تعصي الله وأنت تزعم حبه ×‬
‫إن المحب لمن يحب مطيع‬ ‫لو كان حبك صادقا لطعته ×‬
‫ومن المؤسف أن النكار بالقلب وهو على كل حال دعوى من دون برهان‪ ،‬ل‬
‫يطبقه كثير من الناس إل في ميدان المصالح العامة‪ ،‬أما مجال المنافع الخاصة‪ ،‬فإن‬

‫‪53‬‬
‫المرء فيهـا ينتفـض كالليـث الهصـور‪ ،‬إذا انتقـص مـن رزقـه الحكومـي الشهري أو‬
‫ماله‪ ،‬دينار أو ر‪ ،‬أو ضاع له مقدار عقال‪ ،‬وإذا رأى الفســـاد العام‪ ،‬همـــس‪:‬‬
‫الشكوى إلى ال وقبع مدّعيا أنه أنكر بقلبه‪.‬‬
‫ومن أجل ذلك نرى كثيرا من الفقهاء‪ ،‬أقل من غيرهم من المثقفين والعلماء‬
‫وعامة الناس‪ ،‬حرصا على الصلح المدني‪ ،‬ووعيا بأولويته وأهميته‪ ،‬ولذلك كانوا‬
‫أ قل إدراكا لهم ية قول كل مة ووق فة ال حق في المور العا مة‪ ،‬وأ قل وعيا ومعر فة‬
‫بالواقع ونوازله وأحداثه‪ ،‬يعانون من بطء حيوية في مواكبة الحياة المدنية‪ .‬بل إنك‬
‫تجـد بعـض الفقهاء مركزا فـى صـلح الميـر على اعفاء لحيتـه ‪ ،‬ول يهمـه إل أن‬
‫يعفى المير لحيته ‪ ،‬أما أن يحلق المير لحية المة ‪ ،‬ويفرط فى مصالحها ‪ ،‬فباب‬
‫الضرورة له مفتوح على مصراعيه‪.‬‬
‫يا أمة ضحكت من جهلها المم‬ ‫أغاية الدين أن تحفوا شورابكم ×‬
‫إن مـن يقرأ تاريـخ المسـلمين الحديـث‪ ،‬يدرك حقيقـة مهمـة فـي هذا المجال‪،‬‬
‫وهـي كثرة الذيـن قالوا كلمـة الحـق أمام السـلطان الجائر‪ ،‬مـن مـن ينعتهـم الفقهاء‬
‫والمتفقه ين بالليبرال ية أو العلمان ية‪ ،‬من الدباء والمثقف ين وال صحفيين‪ ،‬والعامل ين‬
‫فـي المسـرح والتمثيـل‪ ،‬بـل إن عدد الذيـن عانوا السـجن وذاقوا الجوع والذى مـن‬
‫العامل ين في ال صحافة وحد ها‪ ،‬في سبيل حر ية الت عبير والرأي والجتماع والتج مع‬
‫ال سامية أك ثر من عدد الفقهاء‪ .‬وهذا يش ير إلى أن الفقهاء‪ ،‬في سلوكهم ومواقف هم‬
‫– ك ما في مؤلفات هم ومواعظ هم – ل يدركون أهم ية بناء الدولة الشور ية العادلة‪،‬‬
‫ولذلك لم يثمنوا أهميـة الدفاع عـن حقوق الشعـب وحرياتـه الشرعيـة‪ ،‬ولم يثمنوا‬
‫أولوية الدفاع عن العدالة الجتماعية‪ .‬وسبب ذلك خلل فى جذور الفكر السلمي فى‬
‫صياغته العباسية‪ ،‬أفضت فى أسبابه ونتائجه فى (كتاب‪:‬من قص جناحي السلم؟)‪.‬‬
‫]‪[37‬‬
‫ب – الغافلون عن أولوية الصلح السياسي‪ :‬لحوم‬
‫مسمومة أم قلوب مسمومة؟‬
‫ل بدّ من هنا من تذكير الفقهاء والمتفقهين وطلب العلم الديني الذين همشوا‬
‫ش طر الشري عة المد ني‪ ،‬ول كن تذك ير هذه الطائ فة بواجباتها‪ ،‬غا ية صعبة وو سائلها‬
‫محفوفة بالخطورة‪ ،‬لن كثيرا من فئات الناس تخلط بين علماء الدين والدين نفسه‪،‬‬
‫فتعتبر نقد الشخاص والمذاهب نقدا للدين‪ ،‬وتعتبر كل محاولة لتذكير علماء الدين‬
‫م ما أخلّوا به من أ صول الد ين أو فرو عه كراه ية للد ين نف سه‪ ،‬وتع تبر أن لحوم‬
‫الفقهاء م سمومة‪ ،‬وكأن هم ب شر مقد سون ل ينطقون عن الهوى ول يخطئون‪ ،‬مع‬
‫أنهـم فئات عديدة ‪ ،‬فيهـم مـن لحومهـم مسـمومة ومنهـم غافلون ومنهـم جاهلون‬

‫‪54‬‬
‫ومن هم يائ سون ومن هم ذوو قلوب م سمومة هم المداهنون والمخادعون‪ .‬ك ما حاول‬
‫الكاتب التفصيل في مقدمة كتيب (تجديد مناهج تعليم الدين ‪ 1411‬هـ (‪ 1991‬م)‪.‬‬
‫وعلى كل حال فإن احترام الم سلمين وا جب في الشري عة‪ ،‬ول سيما الفقهاء‬
‫والقراء العامليـن‪ ،‬فتكريمهـم تكريـم للشريعـة‪ ،‬فليحذر المتحمسـون للصـلح مـن‬
‫الوقوع في أعراض حملة الشريعة‪ ،‬من العلماء الذين يظهر عليهم العمل‪.‬‬
‫لكـن ومـن الخطـأ الشائع تقديسـهم واعتبار نقدهـم طعنا فـي أولياء ال‪ ،‬وقـد‬
‫يت صور ب عض الناس أن الفقهاء هم أولياء ال ‪ ،‬ول ية ال هي معر فة ما أنزل ال‬
‫من الشريعة‪ ،‬والعمل بها وحض الناس عليها‪.‬‬
‫على كل حال فإن الفقهاء الغافلين عن أن العدالة والشورى من أصول الدين‬
‫قوم عملوا بما أدى إليه اجتهادهم وعلمهم وفهمهم‪ ،‬وتجربتهم وخبرتهم في الحياة‪،‬‬
‫وبمـا رأوا أ نه حدود ا ستطاعتهم‪ ،‬والتماس العذار الشرع ية لكـل م سلم ول سيما‬
‫العلماء سـنة حميدة‪ ،‬وحمـل النسـان على أحسـن الظنون أدب شرعـي‪ .‬الحترام‬
‫والتكر يم وح سن ال ظن ب هم محمود‪ ،‬ول يس الفقهاء المعا صرون وحد هم م سؤولين‬
‫عـن الزمـة الحضاريـة الراهنـة‪ ،‬فهـي أزمـة تراكمـت رمال كثبانهـا عـبر الجيال‪،‬‬
‫وتشابكت عقدها عبر القرون‪.‬‬
‫ولكـن المـر المذموم هـو تصـحيح منهجهـم ومنحهـم قداسـة‪ ،‬واعتقاد بأنـه‬
‫يدركون كل شيء في الدين‪ ،‬فشطر الشريعة المدني‪ ،‬وما يتصل به من بناء الدولة‬
‫الشوريـة العادلة‪ ،‬يحتاج إلى اجتهاد عام‪ ،‬لنـه مـن الشؤون العامـة‪ .‬وأكثـر الفقهاء‬
‫عـبر العصـور الذيـن ركزوا على شطـر الشريعـة الروحـي‪ ،‬هـم أهـل اجتهاد خاص‬
‫بالشطر الروحي في مجاله‪ ،‬ولكنهم ليسوا أهل اجتهاد في شطر السلم المدني‪.‬‬
‫و من المف يد التل طف في تذكير هم ب ما ي جب علي هم‪ ،‬وت نبيههم إلى ما يخ فى‪،‬‬
‫ولفـت أنظارهـم إلى الوقائع والنوازل‪ ،‬التـي قـد ل يحسـنون إدراكهـا‪ ،‬لنشغالهـم‬
‫بالتدر يس أو التأل يف‪ ،‬الذي قد يكون من صوارفهم عن ف هم المور المدن ية‪ ،‬ك ما‬
‫أشار ابـن خلدون‪ ،‬وينبغـي أن يناقشوا بالدلة الشرعيـة‪ ،‬ومحاولة كسـبهم لمسـيرة‬
‫الصلح الديني عامة والمدني خاصة‪ ،‬واستثمار مالهم من أسهم شعبية وحكومية‪.‬‬
‫أمـا كسـر هيبتهـم واسـتثارتهم وسـوء مخاطبتهـم‪ ،‬فتلك أمور محظورة فـي‬
‫الشريعة والطبيعة‪ ،‬فل يجوز أن يكلف المرء باعتقاد أمر لم يصل إليه علمه وفهمه‬
‫واجتهاده وخبرته واستطاعته‪ ،‬والنسان أيا كان فقيها أو عالما‪ ،‬أو عاديا أو عاميا‪،‬‬
‫إذا اسـتثير وأهيـن‪ ،‬قـد تدفعـه الحميـة عـن النفـس والهوى‪ ،‬إلى العناد فـي رفـض‬
‫الصلح‪ ،‬والتعصب في استمرار الوقوع فى مستنقع الواقع‪.‬‬
‫ونتي جة هذا ال ستفزاز خ سارة كبيرة لم سيرة ال صلح ال سياسي‪ ،‬فضل عن‬
‫الجهاد ف يه‪ ،‬ح يث ي صبح فر يق غ ير قل يل من أ هل العلم والف ضل من مناه ضا أ هل‬
‫الصلح السياسي‪ ،‬فكيف يتم للمة صلح سياسي إذا كان أعداء الصلح فيها‪ ،‬هم‬
‫‪55‬‬
‫أولو الفقـه‪ ،‬الذيـن أقاموا شطـر الشريعـة الروحـي‪ ،‬وجذبوا الناس الى حقلهـم‬
‫المغناطيسي ‪ ،‬بما لهم من تجسد وإخلص وصدق نية ‪ .‬ولم يدرك الناس أنهم كـ "‬
‫المقتسـمين الذيـن جعلوا القرآن عضديـن " عندمـا كسـروا شطـر الشريعـة المدنـي‪:‬‬
‫وعند ذلك يصبح دعاة الصلح المدني والصلح الروحي فريقين يختصمان‪ ،‬فرحم‬
‫ال المير محمد بن إسماعيل الصنعاني إذ يقول‪:‬‬
‫متى ينصر السلم من ما أصابه × إذا كـان مـن يرجـى يخـاف ويحذر‬
‫]‪[38‬‬
‫ج – اشتراط ريادة الفقهاء الصلح المدني‬
‫والسياسي جهل بالشريعة‪:‬‬
‫إن كثيرا من عا مة الناس بل و من المتعلم ين والمثقف ين‪ ،‬ل يتحركون لنكار‬
‫منكر‪ ،‬ول لقامة معروف‪ ،‬إل إذا تقدمهم أحد الفقهاء‪ ،‬فإن سكت سكتوا‪ ،‬وإن نطق‬
‫نطقوا‪.‬‬
‫ومـن أخطـر المور‪ ،‬أن يظـن الناس أن قول الحـق خاص بقيادة فقيـه سـواء‬
‫أكان المنكـر فـي مجال شعائر المناسـك أم فـي مجال شعائر المدنيـة‪ ،‬فإن أحجـم‬
‫أحجموا‪ ،‬وإن أقدم أقدموا‪.‬‬
‫وكـم كلمات مضيئة ومواقـف نابضـة قام بهـا رجال ليسـوا الفقهاء ول مـن‬
‫القراء‪ ،‬لنهـم ملكوا البصـيرة الشجاعـة والخلص والفقـه الكافـي‪ ،‬وإن لم يملكوا‬
‫الف قه الوا في‪ ،‬وأذ كر من ها أن أ حد العا مة في إحدى بلدان ن جد خلل الن صف الول‬
‫من القرن الرابع عشر‪ ،‬استمع إلى الخطيب وهو يدعو‪ ،‬فعندما قال الخطيب‪ :‬اللهم‬
‫العـن الظلمـة‪ ،‬قال العامـي‪ :‬أل تسـمع يـا فلن؟ (وسـمى أميـر القليـم) وعندمـا قال‬
‫الخطيب‪ :‬وأعوان الظلمة قال الرجل‪ :‬أل تسمع يا فلن؟ (وسمى مساعد المير)!!‬
‫وقصر قول كلمة الحق‪ ،‬أو توقع إعلنها على لسان فقيه‪ ،‬يدل على أمر حسن‬
‫هو ثقة المسلمين بالفقهاء‪ ،‬ولكن الناس لم يدركوا أن الفقهاء ليس فى سلوكهم من‬
‫( تقصير ) من حملة المانة‪ ،‬ولكن قصور عن التوازن ‪ ،‬وهذا القصور أصابهم في‬
‫الصميم‪.‬‬
‫إن منهاج التعليـم الدينـي منـذ العصـر العباسـي يعانـي مـن قلة نشاط‪ ،‬وبطـء‬
‫ل في الحركة‪،‬‬‫حيوية‪ ،‬وقصر حركة الجهاد على قيادة رجال هذا المنهاج‪ ،‬يورث شل ً‬
‫وخللً في التدبير‪ .‬ولكنه من جانب آخر من مساوئ العادات الجتماعية‪ ،‬التي جرى‬
‫الناس فيها على الركود والجمود‪ ،‬حتى حمّلوا الفقهاء مسؤولياتهم‪ ،‬ليريحوا أنفسهم‬
‫مـن عناء المجاهدة والمصـابرة‪ ،‬ويحصـروا التفكيـر والمبادرة‪ ،‬فـي مجال المـر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر بالفقهاء‪ ،‬وكأن هذا الجهاد المدني خاص بالفقهاء من‬
‫كبار وصغار‪ ،‬أو بمن ينتصب للتدريس في مسجد أو يتخصص في حقل من حقول‬
‫‪56‬‬
‫الشريعة الخاصة‪ ،‬فيحمّلون فقهاءهم كل همومهم وهم قاعدون‪.‬‬
‫وهذا السـلوك جهـل بالشريعـة ‪ ،‬بينـه المبعوث لنشـر الشريعـة‪ ،‬فلم يشترط‬
‫الرسـول صـلى ال عليـه وسـلم أن يكون قائل كلمـة الحـق والخيـر والعدل‪ ،‬فقيها‬
‫مجتهدا‪ ،‬أو عالما أو مفكرا أو اسـتاذا جامعيـا‪ ،‬أو طالب علم مثقفا‪ ،‬لن قول كلمـة‬
‫الحق واجب عام‪ ،‬على الخاصة والعامة‪ ،‬كل بحسب حاله‪ ،‬والشريعة لم تشترط أن‬
‫يكون المجاهد والمر بالمعروف عالما‪ ،‬وإنما اشترطت أن يكون المر بالخير على‬
‫بصيرة من ما يأمر به‪ .‬كما قال تعالى‪  :‬قل هذه سبيلي أدعو إلى ال على بصيرة‪.‬‬
‫المهم أن يكون النسان البصيرة ‪.‬‬
‫والبصـيرة فـي أمور السـتبداد والظلم ‪ ،‬ليسـت هلل يتراءاه الناس على‬
‫رؤوس الجبال ‪ ،‬بل هي شمس مشرقة في كل ميدان ‪ .‬ولو خفيت تفصيلت بعض‬
‫أركان الشري عة الخا صة‪ ،‬كشعائر ال حج ودقائق اليمان بالغ يب ل ما خف يت الخرى‪،‬‬
‫كال صلة وال صيام‪ ،‬ولو خف يت ب عض شعائر ال سلم المدن ية‪ ،‬كالموار يث ل ما خف يت‬
‫الركان ال كبرى‪ ،‬فأركان الد ين المدن ية ال كبرى كالعدالة والزكاة والدارة والقت صاد‬
‫والشورى ليست أمورا ملتب سة‪ ،‬يحتاج ال مر فيها إلى علم شرعي دقيق‪ ،‬ولذلك لم‬
‫تشترط النصـوص الشرعيـة أن يكون المحتسـب عالما أو فقيها‪ ،‬إنمـا اشترطـت أن‬
‫يكون عارفا بما يأمر به وينهى عنه‪.‬‬
‫إنما المر المحصور التعمق فيه بالفقهاء شق الشريعة الروحي‪ :‬وأمور الغيب‬
‫والمناسك‪ .‬وكل فقيه اتسع إدراكه إلى معرفة شؤون الدولة العادلة الشورية‪ ،‬يكون‬
‫الفقهاء من أهل الجتهاد العام‪ ،‬جديرا بلقب العالم الراسخ كما نبه القرطبي‪ ،‬وجديرا‬
‫بوراثة النبياء‪ ،‬في الفتاء والتعاليم والقضاء وريادة العمل العام‪ .‬على كل حال هذا‬
‫نمـط الفقهاء المقتصـر على شـق العقيدة الروحـي‪ ،‬ليـس هـو الفقيـه فـى المعجـم‬
‫القرآنـي ‪ ،‬فالقرآن عندمـا تحدث عـن الفقـه لم يحصـره بالمعنـى الصـطلحي الذى‬
‫شاع بعد نزول القرآن‪ ،‬والفقه فى القرآن ‪ ،‬إنما بمعنى العقل والراي الثاقب وحسن‬
‫التفكير والتدبير(كما شرحت في كتاب البرهان)‪.‬‬
‫]‪[39‬‬
‫د – من هم ورثة النبياء؟‬
‫العلماء الراسـخون هـم الذيـن يعرفون اصـول قوة المـة وصـفاء الملة ‪ ،‬ول‬
‫يكون ذلك بالغفلة عن ال سياسة‪ ،‬ل كن لورا ثة ال نبياء مدلول آ خر يخ تص بالعلماء‬
‫العامل ين من أ هل الجتهاد العام العارف ين بالحياة العا مة الم صلحين ف هم المعنيون‬
‫بقول الرسول صلى ال عليه وسلم «العلماء ورثة النبياء» فوراثة النبياء ل تكون‬
‫إل بالتاسي بهم‪.‬‬
‫‪57‬‬
‫والنـبياء أعمالهـم أكثـر مـن أقوالهـم‪ ،‬النـبياء قدموا التوحيـد محورا للعدل‬
‫والشورى فمن ظن وراثة النبياء في تأليف الكتب وإلقاء المحاضرات‪ ،‬وقبض ثمن‬
‫ذلك شهرة وصـيتا وتكريما فقـد أبعـد النجفـة والجهاد بالنفـس والنفيـس فـي سـبيل‬
‫إ صلح المجت مع ينب غي أن يوا كب الموا عظ النفي سة‪ .‬وعلى كل حال فإن الع مل في‬
‫مجال ال مر بالمعروف والن هي عن المن كر‪ ،‬ل يخ تص بريادة فق يه ول مبادر ته ول‬
‫قيادته‪ .‬فعلى كل فرد واجبه‪ ،‬ولكل فضله وريادته‪.‬‬
‫أ جل! من المتو قع أن يكون من يع تبرون أنف سهم ور ثة ال نبياء أولى الناس‬
‫بالدفاع عن الميراث‪ ،‬ولكن قصر حركة الجهاد المدني على دفاعهم‪ ،‬قول بغير دليل‪،‬‬
‫ل سيما والجهاد حر كة وو عي وموا هب قياد ية عمل ية‪ ،‬قد ل تتوا فر فى كل عالم‪.‬‬
‫قيادة الجهاد المدني والسياسي وريادته‪ ،‬إنما يقوم بها ( العرفاء ) الذين لهم بروز‬
‫اجتماعـي‪ ،‬لنهـم يجسـدون اهتمامات الجماعات‪ ،‬فتقدمهـم وتصـدرهم‪ .‬فتكليـف كـل‬
‫الفقهاء بهذا العبء أمر غير صحيح‪ ،‬وكذلك كان صحابة رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬فيهم حفاظ للقرآن وقراء‪ ،‬وفيهم من هو أكثر ريادة‪ ،‬وإن لم يكن أكثر حفظا‬
‫للقرآن‪ ،‬كأبى بكر وعمر‪.‬‬
‫ولذلك ينبغـي الحذر مـن اعتبار ربـط قافلة الصـلح المدنـي والسـياسي‪،‬‬
‫كمقطورة‪ ،‬بعر بة فق يه‪ ،‬من من ركزوا ال سلم في جوا نب المنا سك وهمشوا جا نب‬
‫الق يم المدن ية‪ ،‬والحذر من جعل ها محددة بطاقت هم‪ ،‬ف كل م سلم ق صد و جه ال بعمله‪،‬‬
‫وراعى الغايات والوسائل الشرعية‪ ،‬مجاهد مدني بكلمة أو وقفة‪ ،‬وإن قل علمه‪ ،‬إذا‬
‫حسن عمله‪.‬‬
‫بل ينب غي الحذر من الكتفاء بفتاوى علماء المن هج الدي ني المفرط (الذي ركّز‬
‫الدين في المناسك وأعاد إنتاج الصياغة العباسية للعقيدة وللثقافة السلمية) في مجال‬
‫ل عن ق صر الصلح على‬ ‫الق يم المدن ية ول سيما ال سياسية‪ ،‬فذلك منزلق خط ير‪ ،‬فض ً‬
‫ريادت هم‪ .‬ولو قرأت ك تب هؤلء الغافل ين وفق نا ال وإيا هم لعر فت أن هم فى واد من‬
‫الغفلة سـحيق‪ ،‬وأن عزة المـة وقوتهـا فـى عاليـة الهضاب‪ .‬لن إدراك قيـم السـلم‬
‫المدنيـة‪ ،‬أمـر ل تنحصـر معرفتـه بالفقيـه المتخصـص فـي كليـة أو جامعـة‪ ،‬فالحكام‬
‫الشرع ية الضرور ية‪ ،‬روح ية ومدن ية يدرك ها كث ير من الناس‪ ،‬لن ها من ما يعلم من‬
‫الد ين بالعادة والبدا هة‪ ،‬ل يحتاج في ها الم سلم‪ ،‬الذي ن شأ في بيئة إ سلمية‪ ،‬إلى من‬
‫يفتح عينيه ويعمل بيديه إلى " أولى اليدي والبصار"‪.‬‬

‫]‪[40‬‬

‫‪58‬‬
‫هـ – قيم السلم المدنيةوالسياسية مدركة بالفطرة‬
‫والخبرة‪:‬‬
‫إن ق يم ال سلم المدن ية (عا مة)وال سياسية خا صة‪ ،‬أو ضح من الق يم الروح ية‬
‫وأبين‪ ،‬إذ يدرك أكثرها وأهمها النسان‪ ،‬سواء أكان مسلما أم غير مسلم‪ ،‬لنها من‬
‫المور البديهيـة الضروريـة‪ ،‬التـي ل تحتاج إلى علم واسـتدلل‪ .‬فقـد جرت العقول‬
‫السليمة بمقتضى الفطرة الخبرة‪ ،‬في المم المدنية‪ ،‬التي أشادت الحضارات والدول‬
‫الشامخـة‪ ،‬على إدراك أن العدالة والشورى شرط فـي أي حكومـة‪ ،‬وأن التجمعات‬
‫ـع تظاهرات‬ ‫ـة المجتمـ‬ ‫ـة مبدأ الشورى‪ ،‬وأن حيويـ‬ ‫ـي ضمانـ‬ ‫ـة هـ‬‫ـة المدنيـ‬
‫الهليـ‬
‫واعتصامات وبيانات هي ضمان حقوق الشعب وحرياته ‪ ،‬وأن جو الحرية السامية‪،‬‬
‫هـو المناخ التـي تنمـو فيـه المجتمعات‪ ،‬هذه أمور عرفتهـا كـل أمـة وملة ودولة‪،‬‬
‫مسلمة وغير مسلمة‪ .‬وينبغي للفقهاء أن ل يكونوا في آخر القافلة‪.‬‬
‫كمـا أجمعـت المـم قديمهـا وحديثهـا مسـلمها وكافرهـا على اللتزام بأمهات‬
‫الفضائل‪ ،‬فأجم عت على ف ضل التوا ضع والن صاف‪ ،‬وعلى ف ضل ال صدق والما نة‪،‬‬
‫وعلى ف ضل الع فة وقد سية الزواج‪ ،‬وعلى ف ضل الكفا ية والتخ صص‪ ،‬وعلى ف ضل‬
‫ال جد والدأب وال صبر‪ ،‬وعلى ف ضل التشاور والحوار ‪ ،‬وف ضل التك تل والتعاون ل ما‬
‫ترى لهـا مـن العواقـب الحميدة‪ ،‬وجرت أيضا على كره الظلم والجحاف‪ ،‬وسـوء‬
‫ـكرات‬ ‫ـا واللواط والمسـ‬ ‫ـح الزنـ‬
‫ـح الجور والطغيان‪ ،‬وقبـ‬ ‫ـتكبار‪ ،‬وقبـ‬
‫الثرة والسـ‬
‫والمخدرات لما ترى لها من العواقب الذميمة‪.‬‬
‫والواقع أن الحالة إلى أهل العلم بالشريعة‪ ،‬في كل قضية خفية أو جلية‪ ،‬أمر‬
‫غيـر مشروع‪ ،‬إن عالم الشريعـة إنمـا ينبغـي أن يسـأل عـن المور الخفيـة التـي‬
‫يحسـنها‪ ،‬رغـم أن قوله سـواء أكان مفتيا حكوميا أو شعـبيا‪ ،‬ليـس نصـا ل يجوز‬
‫الخروج عليه‪.‬‬
‫ثم إن الوثوق بقول العالم مستمد من قوة دليله‪ ،‬ل من قيمة شخصه‪.‬‬
‫ثم إن الصياغة العباسية للفكر‪ ،‬وإن صلحت لبيئات غابرة صارت من أسباب‬
‫الجمود فـي بيئاتنـا المعاصـرة‪ ،‬فيندر أن ترى العالم الشرعـي‪ ،‬الذي يدرك كليات‬
‫الشريعة ومقاصدها في المجال المدني والسياسي‪.‬‬
‫ولذلك صار من المالوف ع ند الفق يه التقليدي ‪ ،‬أن يلت مس المخارج والح يل‪،‬‬
‫ل تبرير ظلم مبين‪ ،‬أو ارتشاء فظ يع‪ ،‬أو إهمال في شؤون ال مة مر يع‪ ،‬ورب ما برر‬
‫السكوت عن إنكار الظلم‪ ،‬بدفع المفاسد المقدم على جلب المصالح‪ ،‬ولكن ليس لديه‬
‫مسطرة تثبت أن كم الفساد المتوقع اكثر من الصلح المنتظر‪ ،‬وربما برر السكوت‬
‫عن الفساد بأن الفساد موجود في كل الدول‪ ،‬فيكون بذلك من " حزب التبرير " ‪.‬‬
‫والخل صة أ نه لم يرد دل يل في مح كم الشري عة‪ ،‬ول في حقائق علوم الن سان‬
‫‪59‬‬
‫والطبيعة ينص على أن قول كلمة الحق والعدل والخير خاص بعلماء الدين‪ ،‬ول أنه‬
‫محصور بقيادتهم‪ ،‬بل ولم يرد في الشريعة ما يقصر الصلح على اذن طائفة من‬
‫المفت ين‪ ،‬واشتراط ذلك كهنوت ن صراني‪ ،‬ت سرب إلى ال مة ال سلمية‪ ،‬م نذ الع صر‬
‫الوسيط‪ ،‬في عهود الجمود والركود‪.‬‬
‫إن ال سبحانه وتعالي ‪ ،‬لم يجعل حفظ دينه وشرعه ‪ ،‬للمراء ول للفقهاء ‪،‬‬
‫إنمـا جعله للمـة‪ ،‬ولذلك جاء الخطاب القرآنـي‪ :‬يـا أيهـا الذيـن آمنوا ‪ ،‬فـى الشئون‬
‫عامة والمدنية خاصة ‪ ،‬فى شئون الحرب والسلم ‪ ،‬وقد جاء ذلك فى أكثر من مئة‬
‫موضع فى كتاب ال‪.‬‬
‫ولذلك نص المام ابن تيمية ‪ ،‬على أن المة هي الحفيظة على الشريعة‪ ،‬بل‬
‫إن القرآن حذر المة ‪ ،‬من انحراف الفقهاء والمراء ‪ ،‬ولذلك عقد الشيخ محمد بن‬
‫ع بد الوهاب رح مه ال ‪ ،‬ف صل فى كتاب الوح يد " باب من أطاع المراء والفقهاء‬
‫فى غير طاعة ال ‪ ،‬فقد اتخذهم أربابا من دون ال "‪ ،‬ووضح ذلك المفسرون ‪ ،‬فى‬
‫تف سير آ ية التو بة ‪ :‬اتخذوا أحبار هم ورهبان هم أربا با من دون ال ( ان ظر تف سير‬
‫القرطبي والمنار) ‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫]‪[41‬‬

‫المقالة الحادية عشرة‬


‫الليبراليون وغير الملتزمين‬
‫طلئع السلم المدني والسياسي‬
‫أ – قصر الصلح السياسي على الملتزمين غير‬
‫مشروع‪:‬‬
‫الجهاد المد ني ول سيما ال سياسي جهاد مفتوح‪ ،‬ل كل قادر عل يه‪ ،‬فلم يرد في‬
‫الشريعـة مـا يقصـر المـر بالخيـر والنهـي عـن الشـر‪ ،‬على فريـق دون فريـق‪ ،‬ولم‬
‫يشترط ف يه أن يكون القائم به من المتدين ين الملتزم ين بالفروض‪ ،‬المحترز ين من‬
‫اقتراف الكبائر‪.‬‬
‫فاشترط اللتزام الذاتـي ‪ ،‬شرط كمال ل شرط صـحة ‪ ،‬كمـا قرر الفقهاء فـى‬
‫باب الحسـبة ولذلك قال بعـض افقهاء مشروع لمحتسـي الكئوس أن ينهـى بعضهـم‬
‫عنها بعضا ! إل إذا نهى النسان عن المنكر وهو يمارسه قصدا ل عفوا وسهوا‪،‬‬
‫ِمـ تقولون مـا ل تفعلون‬ ‫فإنـه غيـر جديـر بالقبول قال تعالى‪ :‬يـا أيهـا الذيـن آمنوا ل َ‬
‫وقال‪ :‬أتأمرون الناس بالب ّر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفل تعقلون؟‪ .‬وهذا‬
‫التوبيخ القرآني‪ ،‬توبيخ على نسيان العمل الصالح‪ ،‬ل على التصدي للمر به‪ .‬ول‬
‫ينبغي أن يفهم منه الفهم الشائع‪ :‬للنسان ينبغي أن ل ينهى الناس عند التدخين‪ ،‬ما‬
‫دام يدخن‪ .‬على طريقة الشاعر‬
‫هل لنفسك كان ذا التعليم ؟‬ ‫يا أيها الرجل المعلم غيره ×‬
‫تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى× كيما يصح به وأنت سقيم‬
‫لن المدخـن يسـتطيع أن ينصـح غيره ‪ :‬فيقول السـعيد مـن وعـظ بغيره ‪،‬‬
‫والشقي من وعظ بنفسه ‪ ،‬ل تدخن يا بني لن ادمان التدخين شر عادة ‪.‬‬
‫هذا فـي باب المـر بالمعروف ‪ .‬فمـا بالك بالجهاد السـياسي الذي هـو فرض‬
‫ـي قصــره على العدول‪ ،‬وقصــر ذلك على‬ ‫على الخاص والعام‪ ،‬ولم يرد نــص فـ‬
‫المتدينين أو العدول‪ ،‬حكم بدون دليل‪ ،‬وقصر نظر في الشؤون العامة‪.‬‬
‫فقــد ذم ال تبارك وتعالى العراب مرارا فــي القرآن‪ ،‬وفنــد مزاعمهــم‬
‫وعنجهيت هم‪ ،‬ولك نه لم يأذن ل هم بالقعود عن الجهاد مع أ نه ذم هم بأن هم ل يفقهون‬
‫ولكنه طالبهم بالجهاد وعاتبهم‪ ،‬كما في سورة التوبة‪.‬‬
‫ولم يحصر ال الجهاد بالسابقين الولين‪ ،‬من المهاجرين والنصار‪ ،‬ولم يرو‬
‫‪61‬‬
‫أن المصطفى منع مسلما من الجهاد لفسقه‪ ،‬أو لنه غير متدين‪ ،‬أو لنه مسلم لما‬
‫يدخل اليمان والحسان قلبه‪ ،‬بل قال الرسول صلى ال عليه وسلم‪« :‬إن ال ليؤيد‬
‫هذا الدين بالرجل الفاجر»‪ .‬وقال‪« :‬إنه ال يؤيد هذا الدين بأقوام ل خلق لهم»‪.‬‬
‫ل عن المتلبس‬ ‫ولذلك ل ينبغي للمسلم المتلبس ببعض المعاصي الظاهرة‪ ،‬فض ً‬
‫ببعض المعاصي الباطنة‪ ،‬فضلً عن المسلم العادي‪ ،‬أن يحبس نفسه عن قول الحق‬
‫وركوب قطار ال صلح المد ني ال سلمي‪ ،‬محتجا بأن في ال ساحة من هو أولى م نه‪،‬‬
‫أو بأن الناس سـيفسرون جهده الخيّر تفسـيرا سـيئا‪ .‬ل ينبغـي للعاصـي أن يحبـس‬
‫نف سه في ن فق المع صية‪ ،‬في سكت عن قول ال حق‪ ،‬فيج مع ب ين مع صيتين‪ :‬ارتكاب‬
‫الرذيلة‪ ،‬والسـكوت عـن قول الفضيلة‪ ،‬فإن سـعيه فـي المور الجلى‪ ،‬مـن مقامات‬
‫الجهاد ال تي ت حت ذنو به‪ ،‬ك ما ي حت البرد أوراق الش جر‪ ،‬و سعيه في ها يرف عه إلى‬
‫أعالي الدرجات‪.‬‬
‫]‪[42‬‬
‫ب – ريادة الليبراليين في مجال قيم السلم‬
‫المدنية‪:‬‬
‫ول ينبغي للمتدينين أن يظنوا أن المر بالخير السياسي والمدني والنهي عن‬
‫شرهمـا؛ وقـف عليهـم ول على الفقهاء‪ ،‬وعلى مـن يثقون بمسـلكهم‪ ،‬فيضيّقوا مـا‬
‫وسع ال‪ ،‬ول سيما في مجال الجهاد المدني‪.‬‬
‫إن الجهاد المدنـي يحتاج إلى شرطيـن‪ :‬أن يكون أصـحابه مـن " أولي اليدي‬
‫والبصـار" وهـو يحتاج إلى معرفـة موضوعيـة‪ ،‬وإدراك وحسـن تأت أولً‪ ،‬ويحتاج‬
‫ثانيا إلى وعي وشجاعة وإقدام‪ ،‬في عصر كثر فيه الخائن‪ ،‬وقلّ فيه المين‪ ،‬وكثر‬
‫تفر يط المنت سبين للد ين وخمول هم‪ ،‬وك ثر و عي غ ير المتدين ين وحيويت هم‪ ،‬ف كم من‬
‫موا قف مشر فة‪ ،‬لناس غ ير متدين ين‪ ،‬ل عل ال ير فع ب ها درجات هم مع ال صالحين‬
‫والصادقين‪ ،‬كما رفع بها أمتهم في صفوف الناجحين‪.‬‬
‫إن من يقرأ تاريخ البلدان العربية السلمية الحديثة‪ ،‬يجد أن النخب الليبرالية‬
‫والعلمانيـة والشتراكيـة بـل وغيـر المسـلمة أيضا‪ ،‬هـي التـي قادت حركـة الحداثـة‬
‫القتصادية والتقنية والمدنية‪ ،‬بترجمة العلوم التطبيقية‪ ،‬والعلوم الن سانية‪ ،‬وإنشاء‬
‫الجامعات ودور التعليــم‪ ،‬وإشادة البنوك ومراكــز التجارة والقتصــاد‪ ،‬وبناء‬
‫المستشفيات وتخطيط المدن‪ ،‬ومؤسسات الضمان الجتماعي ورعاية البائسين‪.‬‬
‫وأهم من ذلك كله الحداثة السياسية‪ ،‬فقد سبقت بالمنادات بالنظام الدستوري‬
‫الذي يقوم على توزيع سلطة الدولة على ثلثة أعمدة ‪ :‬القضاء المستقل والمجالس‬
‫النيابية وتحديد سلطات الحكومة ‪.‬ورادت مجالت التجمعات المدنية الهلية كقنوات‬
‫الصـحافة والطباعـة والعلم‪ .‬ونادت بقيـم المجتمـع المدنـي كالتعدديـة والمواطنـة‬
‫‪62‬‬
‫والتسـامح والحريـة والعدالة والمسـاواة‪ ،‬وهذا الذي قامـت بـه مـن شطـر اليمان‬
‫المدني الذي غفل عنه علماء الدين المفرطون‪.‬‬
‫وكان الغمـط مـن نصـيب كثيـر مـن هؤلء الذيـن قادوا الحداثـة التقنيـة‬
‫والقتصـادية والسـياسية‪ ،‬لن بعـض علماء الديـن المفرطيـن والمتزمّتيـن‪ ،‬يفتقدون‬
‫الموضوعية والنصاف‪ ،‬في الحكم على الناس‪ ،‬فإذا رأوا مسلما شجاعا يقول كلمة‬
‫ال حق‪ ،‬و هو ل يس متدينا أو ل يس من جماعت هم أو من طائفت هم أو من معارف هم‪،‬‬
‫أخذوا بالتنقيب عن حياته‪ ،‬والتفتيش عن سيئاته‪ ،‬وسبروا دوافعه ومواقفه‪ ،‬بمسبار‬
‫سوء الظن بالخرين وبالغوا فى التشكيك والرجاف‪ ،‬وكأنهم أحد تلمذة فرويد في‬
‫تحليل دوافع الشاذين والمشردين‪ ،‬وكأنهم محكمون في مدى استحقاقه وسام الجنة‪،‬‬
‫ورب ما بخلوا عل يه بكل مة ثناء وإن صاف واعتراف ‪ ،‬وكأن هم هم الموقعون عن رب‬
‫العالميـن‪ ،‬وكأنهـم هـم أولياء ال المؤتمنيـن‪ ،‬وأوامـر رب العالميـن ل تحتاج إلى‬
‫توقيع‪ ،‬فال ل ينوب عنه أحد من خلفه وعبيده‪ .‬ول أحد يوقع عن رب العالمين إل‬
‫النبياء المرسلون ‪ ،‬وإنما أولياء ال هم الصالحون المصلحون الذين يصلحون ما‬
‫أفسد الناس‪.‬‬
‫]‪[43‬‬
‫ج – تقصير المتدينين في الصلح المدني‬
‫والسياسي‪:‬‬
‫وهذا الموقـف ناتـج عـن التنطـع‪ ،‬وقلة الختلط بالناس‪ ،‬وضعـف التمرس‬
‫بالحياة‪ ،‬و قد ي سوغ ال سكوت ع نه لو كان م سلكا محدودا خا صا بجما عة أو مكان‪،‬‬
‫ولك نه ظاهرة عا مة في عد يد من البلدان ال سلمية عا مة والعرب ية خا صة تمارس‬
‫باسم التدين‪.‬‬
‫وهناك م سألة مه مة‪ ،‬وهي أن التدين ل يس مح صورا بالثانوي من الدين من‬
‫مظا هر وطقوس‪ ،‬ول بإطالة لح ية ول تق صير ثياب ول بح مل م سواك‪ ،‬وغ ير قل يل‬
‫من الملتزم ين فى ظاهر هم في جا نب الشري عة الرو حي كال صلة وال صيام والذ كر‬
‫وقيام الليـل والدعاء‪،‬؛ إنمـا هـم غارقون فـي منكرات مـن البدع المدنيـة كالغيبـة‬
‫والنميمـة وتزكيـة النفـس والعجاب بالذات‪ ،‬وقلة العدل والنصـاف مـع الموافقيـن‬
‫فضلً عـن المخالفيـن‪ ،‬وضمور المرونـة فـي النقاش مـع الموافقيـن‪ ،‬والوقوف مـن‬
‫الشريعة على المظاهر والشعائر‪ ،‬وتركيز الدين في شؤون العبادة الفردية الروحية‬
‫الخا صة‪ ،‬وض يق ال فق في ف هم ش طر الد ين المد ني‪ ،‬والتق صير في بر الوالد ين‪،‬‬
‫و صلة الرحام والقارب‪ ،‬والتق صير عن المشار كة في الشأن العام‪ ،‬والنحباس في‬
‫تربية أهلهم وأولدهم‪ ،‬وترك مجتمعهم‪.‬‬
‫وهذه المور التـي غرقوا فيهـا وهـم ل يشعرون‪ ،‬إنمـا هـي مـن الكبائر ‪ .‬لن‬
‫‪63‬‬
‫اثرها على المجتمع أخطر من ما لحظوه على اللبراليين من جانب ‪ .‬ولن تفريطهم‬
‫فى شعائر الدين المدنية هو الذي أوحى للبراليين بمحاكاة الغرب ‪ ،‬كما ذكر الغزالي‬
‫وعلل الفاسـي وغيرهمـا ‪ ،‬إن جهـل أغلب الفقهاء عامـة وطلب العلوم الدينيـة‬
‫والمتدينين عامة بمفهوم المجتمع المدني أعظم دللة على جهلهم بالشريعة ‪ .‬ولذلك‬
‫ل ينب غي للمرء أن يز كي نف سه‪ ،‬ف كم من مع صية خف ية يش عر ب ها أو ل يدري‪ ،‬ول‬
‫ينبغي للمرء أن يسيء الظن بإخوانه ويحتقر جهودهم ولو كانوا فساقا‪ ،‬فرب عاص‬
‫أدرك بذله وانكساره‪ ،‬ما لم يدركه ملتزم بعجبه واغتراره‪.‬‬
‫وقصـر الجهاد المدنـي على المتدينيـن مسـلك غيـر شرعـي‪ ،‬يعنـي احتكار‬
‫الصـواب والخلص‪ ،‬واحتكار علو الهمـة فـي جلب النفـع العام‪ ،‬واحتكار الشجاعـة‬
‫والتضح ية‪ ،‬وذلك أ مر ل يت سق مع الشريعة‪ ،‬لن الشري عة أمرت بقبول كل مة الحق‬
‫من أي إنسان‪« ،‬فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها» كما في الحديث‬
‫الشريف‪.‬‬
‫وتفتيـش بواطـن الناس‪ ،‬ليـس أمرا مشروعا للحاكـم‪ ،‬فضلً عـن غيره مـن‬
‫الناس‪ ،‬وإ ساءة ال ظن بالناس ظلم وإجحاف‪ ،‬وال سنة هي العتراف بالف ضل لهله‪،‬‬
‫والنصـاف للقريـب والبعيـد‪ ،‬والعتماد على الظواهـر فـي الحكـم‪ ،‬على الشخاص‬
‫وترك البواطن ل‪ ،‬وتشجيع كل فاعل خير‪ ،‬والثناء عليه بما صنع‪ ،‬وإن كان مستترا‬
‫بالمعصية أو بدعة‪ ،‬بل وإن كان معلنا لبدعة أو معصية‪ ،‬ما دام قد قدم خيرا لعموم‬
‫الناس‪.‬‬
‫ولو افترضنـا أن المجاهـد المدنـي لم يسـتطع أن يكون نموذج الخلص ل‪،‬‬
‫ولم يقدر أن يبرئ نفسه من حظوظ النفس العاجلة‪ ،‬فإن ذلك ل يقدح في مشروعية‬
‫جهاده المدنـي وإصـلحه‪ ،‬ولذلك فإن تركـه الجهاد المدنـي والصـلح أمـر محرم‬
‫مذموم‪ ،‬فالصحابة رضوان ال عليهم‪ ،‬لم يكونوا على درجة واحدة‪ ،‬ل في التضحية‬
‫واليثار‪ ،‬ول في الخلص ول في البتعاد عن حظوظ الن فس‪ ،‬و قد ذ كر ال عن هم‪،‬‬
‫وهم خيرة المة‪ ،‬أنهم ليسوا سواءً في الخلص فكان منهم السابقون واللحقون‪،‬‬
‫ومنهم المهاجرة والنصار‪ ،‬ومنهم أعراب يبحثون عن الغنائم‪ ،‬وبمجموعهم انتصر‬
‫ال سلم‪ .‬ل يتو قف صلح الع مل العام على الدوا فع والنيات الخوالص‪ ،‬إن ما الم هم‬
‫النتائج والمال والمحصول المتجمع في البيدر‪ ،‬في الحياة الدنيا‪ ،‬إنما يتوقف صلح‬
‫العمل على الدوافع في الحياة الخرة‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫]‪[44‬‬

‫المقالة الثانية عشرة‬


‫الخلص لوجه الله في الجهاد‬
‫المدني والسياسي ليس شرط‬
‫صلح دنيوي بل شرط ثواب‬
‫أخروي‬

‫أ ‪ -‬هل النية مطية في العمل الدنيوي‪:‬‬


‫هـل النيـة مطيـة؟ ولذلك ينبغـي لقائلي كلمـة الحـق والعدل والخيـر؛ أن ل‬
‫يقولو ها‪ ،‬إل إذا تأكدوا من إخلص نيات هم لت صح أعمال هم‪ ،‬هذا صحيح في ش طر‬
‫ل من دون‬ ‫الشريعة الروحي‪ :‬اليمان بالغيب وشعائر المناسك‪ .‬فل يقبل ال منها عم ً‬
‫صلح النيات‪.‬‬
‫وهو صحيح في شطر الشريعة المدني إذا نظرنا إلى الجر الخروي الفردي‪،‬‬
‫فإن أجر الجهاد عسكريا أو مدنيا‪ ،‬ل يكون إل لمن جعل وجهة ال قبلته‪ ،‬وإصلح‬
‫المة راحلته‪ ،‬فليحذر النسان من أن يشرك في الطاعة غير ال‪ ،‬فيحبط عمله‪ ،‬كما‬
‫منثورا كأن يمتطي النسان‬
‫‪‬‬ ‫قال تعالى ‪‬وقدمنا إلى ما عملوا من عمل؛ فجعلناه هباءا‬
‫خدمة المة ورعاية المصلحة العامة‪ ،‬لكي يقال إنه بطل مصلح‪ ،‬أو أن يقول كلمة‬
‫الحق عند الطاغية‪ ،‬لكي يقال عنه إنه شجاع جريء‪ ،‬ومن فعل ذلك فقد خسر حظ‬
‫المجاهدين وحظ الشهداء‪ ،‬كما ورد الحديث الشريف عندما سئل الرسول صلى ال‬
‫عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية‪ :‬أيهم في سبيل ال؟ فقال‪( :‬من‬
‫قاتل لتكون كلمة ال هي العليا‪ ،‬فهو في سبيل ال)‪.‬‬
‫والم سلم المحروم من يض يع مو سم الجهاد المد ني وإيثار الم صلحة العا مة‪،‬‬
‫فيج عل موسـم الجـر والثواب والجهاد‪ ،‬ميدان خي بة خ سارة‪ ،‬ولذلك قال رسـول ال‬
‫صـلى ال عليـه وسـلم‪« :‬إن أخوف مـا أخاف عليكـم الشرك الصـغر‪ ،‬قالوا‪ :‬ومـا‬
‫الشرك الصغر يا رسول ال؟ قال‪ :‬الرياء‪ .‬يقول ال عز وجل يوم القيامة إذا جازى‬
‫العباد بأفعالهم‪ ،‬اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا! هل تجدون عندهم‬
‫الجزاء» (رواه أح مد وال طبراني والبيه قي وقال الز ين العرا قي‪ :‬رجاله ثقات) وقال‬
‫‪65‬‬
‫صـلى ال عليـه وسـلم‪« :‬مـن عمـل عملً‪ ،‬أشرك فيـه غيري فهـو له كله وأنـا منـه‬
‫بريء‪ ،‬وأنا أغنى الغنياء عن الشرك» (رواه مسلم)‪.‬‬
‫فليحذر الن سان من و ساوس الشيطان‪ ،‬فإن الشيطان ما يزال بالم سلم ح تى‬
‫يوقعـه فـي المعصـية الظاهرة‪ ،‬فإذا أفلت المؤمـن وعرف الدرب وسـار‪ ،‬نازعـه‬
‫الشيطان يحاول أن يوق عه في المع صية الخف ية‪ ،‬في قع في الرياء والشرك‪ ،‬في صبح‬
‫عمله يوم القيامة كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف‪.‬‬
‫ومن أجل ذلك فإن على النسان أن يخلص في البدء نيته الحسنة‪ ،‬ثم يجدد‬
‫الخلص في كل حين‪ ،‬حتى يثبته ال على الخلص والستقامة‪ ،‬ثم ليثق بعد ذلك‬
‫بأن ال سيمنحه الستقامة‪ ،‬وتتنزل عليه الملئكة وتبتعد عنه الشياطين‪ ،‬كما قال‬
‫تعالى ‪‬إن الذيـن قالوا ربّنـا ال ثـم اسـتقاموا تتن ّزلُ عليهـم الملئكـة ألّ تخافوا ول‬
‫تحزنوا وأبشروا بالج نة ال تي كن تم توعدون * ن حن أولياؤ كم في الحياة الدن يا و في‬
‫الخرة عندهـا يكون مـن المؤمنيـن المثبتيـن على الخلوص مـن الرياء والزيـغ كمـا‬ ‫‪‬‬
‫وعدنا ال تبارك وتعالى‪ :‬يثبّت ال الذين آمنوا بالقول الثابت‪.‬‬
‫]‪[45‬‬
‫ب – ليتوقف النسان عن العمل الروحي إذا داخله‬
‫الرياء أما المدني فل‪:‬‬
‫في شق الشريعة الروحي على النسان أن يتوقف عن العمل‪ ،‬إذا تبين له من‬
‫نفسـه الرياء كقراءة القرآن ونوافـل الحـج والعمرة‪ ،‬حتـى يصـحح النيـة ويجدد‬
‫الخلص‪.‬‬
‫أما في شق الشريعة المدني فليس عليه أن يتوقف‪ ،‬بل عليه أن يستمر إذا‬
‫كان متأكدا من صواب اتجاهه‪ ،‬كالصدقة والهبة وعون الضعيف وإغاثة الملهوف‪.‬‬
‫لسببين‪:‬‬
‫الول ‪ :‬أن النسـان معرض لوسـاوس الشيطان ‪ ،‬حتـى لو كان أتقـى الناس‪،‬‬
‫فالنـبياء على فضلهـم لم يعصـموا مـن وسـاوس الشيطان‪ ،‬وهذا المعنـي واضـح‬
‫صريح في القرآن ‪ .‬ولكنهم معصومون من الستمرار على ذلك‪ .‬وهذا المعنى ذكره‬
‫المف سرون كالقر طبي مرارا فى التف سير‪ ،‬فى م ثل قوله تعالى " إن عبادى ل يس لك‬
‫عليهـم سـلطان" وبينوا أن المقصـود بالسـلطان الغلبـة والسـتمرار‪ ،‬ل الفلتات‬
‫والخطرات ‪ .‬ح تى لو خال طه ش يء من و ساوس الشيطان‪ ،‬فلو ظل الن سان العادي‬
‫على وتيرة ثابتـة‪ ،‬ل يداخلهـا حـظ مـن حظوظ النفـس‪ ،‬لكان فـي طبقـة النـبياء‬
‫والصديقين‪.‬‬
‫ولكن القرين من شياطين النس والجن‪ ،‬يحاول إفساد العمل الصالح‪ ،‬فربما‬
‫افت خر الن سان بعمله وأع جب به‪ ،‬ورب ما ارتاح للثناء والمد يح‪ ،‬ورب ما ر ضي عن‬
‫‪66‬‬
‫نفسه‪.‬‬
‫ول معول على هذه الهوا جس ونحو ها من الخوا طر العابرة الشخ صية‪ ،‬ال تي‬
‫ل يكاد ينجـو منهـا ابـن آدم‪ ،‬إذا لم تصـبح عادة مألوفـة‪ ،‬بـل ل بأس بهـا حتـى فـي‬
‫شعائر المناسـك‪ ،‬لنهـا تقوي ارتياح المرء‪ ،‬بأنـه عمـل أمرا ذا جدوى‪ ،‬ومـن خلل‬
‫ذلك ي حس برا حة الضم ير والطمئنان النف سي إلى القيام بالوا جب‪ ،‬وهذه الخوا طر‬
‫والحاسـيس‪ ،‬مـن اللمـم الذي ل يقدح فـي الخلص‪ ،‬وهـي مـن الوسـاوس التـي ل‬
‫ينبغي للمسلم أن ل يتوقف عن العمل بسببها‪ ،‬فإن شياطين الجن والنس إذا عجزوا‬
‫عن المؤمن‪ ،‬ارتد كيدهم إلى الوسوسة‪ ،‬والوسوسة ل تقدح في الخلص‪.‬‬
‫ولذلك فإن الصحابة لما شكوا إلى الرسول وسوسة الشيطان قال لهم «الحمد‬
‫ل الذي رد كيده إلى الوسـوسة» أي أنـه يوسـوس فـي الخواطـر‪ ،‬ولكـن المؤمنيـن‬
‫بقوتهم يردعونه‪ ،‬فل يؤثر عليهم في ميدان العمل‪ .‬كما قال تعالى‪ :‬إن الذين آمنوا‬
‫إذا مسهم طائف من الشيطان‪ ،‬تذكروا فإذا هم مبصرون‪.‬‬
‫بـل إن الوسـوسة ل تقدح فـى إخلص التوحيـد ول تؤدي إلى فتنـة حياة أو‬
‫ممات‪ ،‬كما قال عبد الحق الشبيلي «إن سوء الخاتمة ل يكون لمن استقام ظاهره‪،‬‬
‫و صلح باط نه‪ ،‬ما سمع بهذا قط‪ ،‬ول علم به والح مد ل‪ ،‬إن ما يكون ل من كان له‬
‫ـن كان‬ ‫ـرار على الكبائر‪ ،‬وإقدام على العظائم‪ ،‬أو لمـ‬ ‫ـي العقيدة أو الصـ‬ ‫ـاد فـ‬
‫فسـ‬
‫م ستقيما‪ ،‬ثم تغيرت حالة وخرج عن سننه‪ ،‬وأ خذ في طر يق غ ير طري قه‪ ،‬فيكون‬
‫عمله ذلك سـببا لسـوء خاتمتـه‪ ،‬وسـوء عاقبتـه والعياذ بال» (العتصـام‪)70/1 :‬‬
‫وصدق ال العظيم حين يقول‪ :‬يثبّت ال الذين آمنوا بالقول الثّابت في الحياة الدنيا‬
‫الخرة [إبراهيم‪.]27 :‬‬
‫‪‬‬ ‫وفي‬
‫وينب غي للمنا ضل المد ني وال سياسي ‪ ،‬كل ما مرت به حالت الض عف ونازع ته‬
‫نفسه إلى الرياء‪ ،‬والعجاب بالنفس عند الثناء‪ ،‬أن يدعو ال بقلب حاضر‪ ،‬بالدعية‬
‫القرآن ية والنبو ية المأثورة م ثل ‪‬ربّ نا ل تُزغ قلوب نا ب عد إذ هديت نا‪ ‬وقوله تعالى‪  :‬قل‬
‫أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس* مـن شـر الوسـواس الخناس * الذي‬
‫يوسـوس فـي صـدور الناس *مـن الجنـة والناس‪ ‬ومثـل دعاء عمـر بـن الخطاب‬
‫المأثور‪« :‬اللهـم اجعـل عملي صالحا‪ ،‬واجعله لوجهـك خال صا» والدعاء الذي اعتاد‬
‫المصطفى ترديده «يا مثبّت القلوب ثبّت قلبي على دينك»‪.‬‬
‫الثانـي‪ :‬حتـى لو كان النسـان يريـد جاهـا أو مال أو سـلطة ماديـة مـن خلل‬
‫قيا مه بع مل مد ني أو سياسي ‪ ،‬فهذه المور إذا لم ت كن مقا صد أ صيلة للع مل ‪ ،‬بل‬
‫كانت تبعية ‪،‬ل تقدح فى الخلص كما بين الشاطبي فى الموافقات‪.‬‬
‫بل وحتى لو كان العامل فى مجال المصلحة العامة ‪ ،‬صاحب غرض شخصي‬
‫اصلي ‪ ،‬كالمال والشهرة والسلطة المادية ‪ ،‬لن نيته له وحده ‪ ،‬وعمله سراب عند‬
‫ال ‪ ،‬ولكـن المسـلمين ينتفعون‪ ،‬بمـا يقام مـن مسـتشفيات ومواصـلت ‪ ،‬ومدارس‬
‫‪67‬‬
‫وبنوك ‪ ،‬فهذا هو المعنى بمثل قوله صلى ال عليه وسلم " إن ال ينصر هذا الدين‬
‫بالر جل الفا جر" ‪ .‬ول كن الم هم فى هذا المجال أن يعرف النا سعامة والعاملون م عه‬
‫حقيقة مقاصده‪ ،‬لكي ل يضل بهم الطريق‪ ،‬أما أن يكون راكبا ضمن ركاب ‪ ،‬فليس‬
‫فى ذلك ما يمنع من مشاركته‪.‬‬
‫]‪[46‬‬
‫ج– الدفاع عن المصالح الشخصية والفئوية ل يقدح‬
‫في الخلص‪:‬‬
‫ول يقدح في إخلص جهاد المرء المدني أن يكون مدافعا عن مصلحة خاصة‬
‫بدائرتـه‪ ،‬أو أهـل بلدتـه‪ ،‬أو قـبيلته وجماعتـه أو بنقابتـه أو بتخصـصه‪ ،‬مـا دامـت‬
‫المصلحة الخاصة بهم‪ ،‬ل تتعارض مع المصلحة العامة للمة‪ ،‬فهو شبه راع وكل‬
‫راع مسـؤول عـن رعيتـه‪ ،‬ومـا دام قادرا فقـد تعيـن عليـه إنكار المنكـر وجلب‬
‫المعروف‪.‬‬
‫فقـد نـص علماء الصـول‪ ،‬على أن فرض الكفايـة‪ ،‬يصـبح فرض عيـن على‬
‫القادر‪ ،‬مـا دام المدافـع مقدما النيـة الحسـنة المخلصـة لوجـه ال‪ ،‬قال المصـطفى‬
‫الكر يم‪« :‬خير كم المدا فع عن قو مه ما لم يأ ثم» (رواه أ بو داود) و سئل أيضا‪ :‬أ من‬
‫الع صبية أن ين صر الر جل قو مه في ال حق؟ قال‪« :‬ل ول كن من الع صبية أن ين صر‬
‫الرجل قومه بالباطل» (رواه أبو داود)‪.‬‬
‫بل ول يقدح في أجر المرء أن يكون مدافعا عن نفسه أو أهل بيته‪ ،‬لنه راع‬
‫أيضا ومسـؤول عـن رعيتـه‪ ،‬والدفاع عـن الحـق الخاص أمـر مشروع‪ ،‬ولو قتـل‬
‫المدافـع فـي سـبيله‪ ،‬لكان فـي عداد الشهداء الخيار‪ ،‬كمـا نـص الحديـث‪ ،‬وإذا قدم‬
‫النسـان النيـة الحسـنة المخلصـة لوجـه ال‪ ،‬فكـل مظلمـة تصـيبه فـي نفسـه وماله‬
‫وعرضـه ونسـله وجاهـه‪ ،‬يعـد دفاعهـا جهادا مدنيـا‪ ،‬ح تى لو لم يسـتحضر المدافـع‬
‫الخلص لوجه ال‪ ،‬ما دام قد استحضر توفير الستقرار لنفسه وأهله‪ ،‬لن ذلك من‬
‫ما هو مستقر في سنن ال في الطبيعة‪ ،‬وكل ما هو مستقر في الفطرة والطبيعة‪،‬‬
‫فإنمـا هـو مـن سـنن ال فـي الشريعـة‪ ،‬ول سـيما إذا نوى بذلك أن يلقـن الظالميـن‬
‫در سا‪ ،‬كي ل ي سترسلوا في طغيان هم وجور هم وف سادهم‪ ،‬فلول كث ير من الموا قف‬
‫الفردية‪« ،‬ولول دفع ال الناس بعضهم ببعض لفسدت الرض»‪ .‬والمدافع عن حقه‪،‬‬
‫سواء استحضر هذا المعنى أم لم يستحضره‪ ،‬خير مِن مَن ترك حقه تهاونا وكسلً‪،‬‬
‫أو ظـن ترك حقـه فـي الدنيـا أوفـر له حـظ فـي الخرة‪ ،‬فهذه الفكار مـن وسـاوس‬
‫التخلف ودرو شة الرهب نة‪ ،‬لن المظلوم إذا ترك ح قه احت سابا‪ ،‬ش جع الظالم ين على‬
‫مزيد من ظلم الخرين‪ ،‬وتأمل كم في قصة القبطي الذي شكا ابن عمرو بن العاص‬
‫إلى عمر من حكم‪.‬‬
‫‪68‬‬
‫ومن ما يغلط فيه كثير من الناس‪ ،‬أن يعتبروا المدافع عن المصلحة الخاصة‪،‬‬
‫إنسـانا غيـر مخلص أو نفعيا ل يتحرك إل عندمـا يصـل إليـه الذى‪ ،‬ومـا أدركوا أن‬
‫الدفاع عن المصلحة الخاصة جهاد مدني بالضوابط التي ذكرنا‪ ،‬وما فطنوا إلى أمر‬
‫أهم من ذلك‪ ،‬وهو أن النسان في الغالب ل يتحرك إل إذا اكتوى‪ ،‬ول يشارك الناس‬
‫إحساسهم إل إذا اصطلى‪.‬‬
‫كثير من المصلحين لم تنضج تجربة الصلح فيهم‪ ،‬إل عبر ظلم نزل بهم أو‬
‫بأهلهم‪ ،‬أما ترى أن من حكم الصوم أن يحس الغني بالجوع‪ ،‬ليتصدق على الفقراء‪.‬‬
‫وربما كانت وفاة ول يد المرء بسبب داء ع جز عن عل جه الطباء أو أهملوه‪ ،‬سببا‬
‫في قيا مه بوا جب إ صلح المش فى أو إنشائه‪ ،‬ولرب ما كان إخفاق أولد الن سان في‬
‫الدراسة‪ ،‬سببا لمطالبته بإصلح منهاج التعليم‪.‬‬
‫على أن المؤمـن الكيـس يسـتطيع أن يخلط تجربتـه الخاصـة‪ ،‬بأتون تجربـة‬
‫المجتمع والوطن العامة‪ ،‬فيصبح دفاعه عن المصلحة الخاصة دفاعا عن المصلحة‬
‫العا مة‪ ،‬ول ض ير عل يه في ذلك‪ ،‬ول قدح في أ جر جهاده‪ ،‬م تى ملك الن ية الح سنة‬
‫المخلصة لوجه ال‪ ،‬وأحسن العمل‪.‬‬
‫]‪[47‬‬
‫د – صواب من دون إخلص‪ ،‬خير من إخلص من دون‬
‫صواب‪:‬‬
‫بل إن المصلح ل ينبغي له أن يتوقف عن الجهاد المدني في سبيل المصلحة‬
‫العا مة‪ ،‬ح تى لو لم ت كن ني ته منضب طة بالضوا بط الشرع ية للخلص‪ ،‬لن المجا هد‬
‫المدنـي فـي الميدان‪ ،‬يكسـبه العمـل إخلصـا ونقاءا وصـفاءا‪ ،‬كلمـا عانـى وجرّب‬
‫واكتوى‪ ،‬فيصبح أتون العمل له كبوتقة النار التي تنفى الخبث‪ ،‬عن الذهب ويصبح‬
‫المجا هد المد ني فى بوت قة التجر بة كالن ية غ ير النظي فة‪ ،‬يزيد ها تقليب ها في تيار‬
‫الماء نظافة وجلءًا‪ ،‬كما ذكر المام المودودي رحمنا ال وإياه‪.‬‬
‫وكـل مجال خيـر ونفـع عام‪ ،‬يتوقـع أنـه سـيقود صـاحبه إذا وفقـه ال إلى‬
‫الخلص لو جه ال‪ ،‬ك ما قال مجا هد رح مه ال «طلب نا العلم للدن يا‪ ،‬فأ بى العلم أن‬
‫يكون إل ل»‪ .‬وكمـا ذكـر العلماء كالشاطـبي فـي الموافقات‪ ،‬أن الرسـوخ فـي علم‬
‫الشريعة يقود في الغالب إلى بلوغ درجة الخلص والصفاء‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫]‪[48‬‬

‫المقالة الثالثة عشرة‬


‫إنكار المنكر السياسي‬

‫هل يحتاج إلى استئذان‬


‫السلطان؟‬
‫أ – الفرق بين الجهاد العسكري والسياسي‪:‬‬
‫الصل في الجهاد العسكري الخارجي‪ ،‬أن يكون قراره‪ ،‬ناتجا عن إرادة المة‪،‬‬
‫ال تي يج سدها مجلس النواب‪ ،‬و قد ي كل مجلس النواب القرار لل سلطة التنفيذ ية‪ ،‬فى‬
‫ب عض الظروف الطارئة ‪ .‬على أن تواف يه الحكو مة بال مبررات ( ان ظر م سودة ن حو‬
‫دسـتور ( إسـلمي ) للدولة السـلمية الحديثـة‪ .‬إصـدار دعاة الدسـتور والمجتمـع‬
‫المدني ( السلمي ) فى السعودية ‪ .‬أما الجهاد الداخلي السلمي‪ ،‬والمر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر‪ ،‬عبر اللسان والقلم والموقف السلمي فهل يحتاج إلى استئذان؟‬
‫إن من المر الطبيعي المشروع‪ ،‬أن يبدأ الناس بالمر بالصلح‪ ،‬والنهي عن‬
‫الفسـاد‪ ،‬بالسـلوب الليـن‪ ،‬فإذا رأوا شرا منشورا أو خيرا مهجورا‪ ،‬خاطبوا الجهـة‬
‫التـي تحتاج إلى الصـلح‪ ،‬ووضحوا لهـا حكـم المـر إن كان مجهولً‪ ،‬وبينوا لهـا‬
‫الواقع إن كان خافيا‪ ،‬وذكروها بالمر إن كانت ناسية‪.‬‬
‫ومـن ذلك شكوى الموظـف إلى مديـر الدائرة‪ ،‬وشكوى المديـر إلى الوزيـر‬
‫والمير‪ ،‬وشكوى الوزير والمير‪ ،‬إلى الملك والرئيس‪ .‬ومن ذلك الشكوى إلى دائرة‬
‫المظالم (المحكمـة الداريـة) والشكوى إلى محكمـة العدل العليـا الدسـتورية‪ ،‬أو‬
‫المحاكم العادية‪.‬‬
‫وهذا ال سلوب المتدرج أولى‪ ،‬وأح مد عاق بة‪ ،‬وأ قل كلفة‪ ،‬وهو أ سلوب إداري‬
‫معروف‪ ،‬في نظام الدارة العامة‪ ،‬ولو أن الناس تعاونوا على اتباعه‪ ،‬لما شاع منكر‬
‫روحـي ول مدنـي ول انطمـر معروف مدنـي ول روحـي‪ ،‬ولكـن هذا السـلوب ليـس‬
‫حكما شرعيا واجبا‪.‬‬
‫فإذا لم ي مت ال شر سواء أكان بد عة أو مع صية روح ية أو مدن ية في مهده‪،‬‬
‫ولم يبعث الخير من لحده‪ ،‬فل بدّ من الصدع بالمر‪ ،‬من دون خشية أحد‪.‬‬
‫‪70‬‬
‫لن الحاد يث نصت على ال مر والنهي‪ ،‬ك ما في حديث « سيد الشهداء حمزة‬
‫بن ع بد المطلب‪ ،‬ور جل قام إلى إمام جائر‪ ،‬فأمره ونهاه فقتله» فالحد يث كغيره من‬
‫ـي‪ ،‬ل على الرجاء‬ ‫ـر والنهـ‬‫ـص على المـ‬ ‫ـلح مدنيا وروحيا‪ ،‬ينـ‬ ‫ـوص الصـ‬ ‫نصـ‬
‫واللتماس‪ .‬وال مر ع ند ال صوليين هو طلب الش يء على ج هة ال ستعلء‪ ،‬والن هي‬
‫هو طلب الكف على جهة الستعلء‪ ،‬فالمجاهد السلمي إذن يأمر الحاكم وينهاه دون‬
‫تذلل وخضوع‪ ،‬لن ال خوله مباشرة‪ ،‬بأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهو‬
‫قوي بهذا المر الرباني‪.‬‬
‫كما أن رسول الملك‪ ،‬قوي عزيز‪ ،‬بقوة المر الملكي فكذلك المجاهد السلمي‪،‬‬
‫قوي بقوة المر الرباني‪ ،‬ذلك أن المر والنهي‪ ،‬صدع بالحق‪ ،‬ينبغي أن ل يقوم به‬
‫المجاهـد السـلمي ويداه ترتعشان‪ ،‬أو وهـو خاضـع الرأس والجـبين‪ ،‬أو متعثـر‬
‫الخطوات‪ ،‬وكأنـه شحاذ يطلب رفدا ومعونـة‪ ،‬فليـس ذلك مـن الجهاد السـلمي الذي‬
‫يقوم على البلغ بالحكمة‪ ،‬وليس ذلك من الدعوة التي تقوم على الموعظة الحسنة‪.‬‬
‫بل إن أ ساليب الستجداء والمداهنة‪ ،‬إن ما هي من أدب الدرو شة والشحاذة‪،‬‬
‫الذي شاع فـي عصـور النحدار فـي مخاطبـة الحكام‪ ،‬وكأنهـم أناس فوق مسـتوى‬
‫البشر‪ ،‬ذلك أدب ذل واستكانة‪ ،‬لم يأمر به طبع كريم‪ ،‬ول عقل‪ ،‬فكيف يأمر به شرع‬
‫تنزل من لدن عزيزحكيم‪.‬‬
‫ول يس من ال صدع بكل مة ال صدق‪ ،‬أن يتملق النا صح الحا كم‪ ،‬فيز عم أن ما‬
‫يحصل من خلل وانهيار‪ ،‬أو تجبر واستكبار‪ ،‬إنما سببه الحاشية الفاسدة‪ ،‬والبطانة‬
‫الخانعة‪ ،‬والمستشارين الخونة‪ ،‬فيبرئ الحاكم من تبعة ضياع المانة‪.‬‬
‫فلو كان الحاكــم صــالحا لقرّب البطانــة الصــالحة‪ ،‬ولو كان عاد ًل لقرّب‬
‫المستشارين المخلصين‪ ،‬فهو شريك لكل من أفسد وظلم‪ ،‬سواء أكان عامدا أو غافلً‬
‫أم ضعيفا‪ .‬فلقد نصب نفسه للمة قائدا والمانة عبء وتبعة‪ ،‬وكل راع مسؤول عن‬
‫رعيته‪.‬‬
‫ونسبة الصلح إلى الحاكم‪ ،‬والفساد إلى من حوله‪ ،‬أنموذج لنظرية المداهنة‬
‫والمداجاة التي أفسدت عقل المة السياسي والجتماعي‪ ،‬وهي نظرية شائعة‪ ،‬ليس‬
‫لها ذرة من الحق ول من العدل‪ ،‬ول من النصيحة الشرعية‪.‬‬
‫]‪[49‬‬
‫ب – استئذان السلطان وفقه المداهنة‪:‬‬
‫ومن العجب العجاب‪ ،‬أن تنص الدلة الشرعية القطعية الورود والدللة‪ ،‬على‬
‫وجوب أمر الحكومة بالصلح ونهيها عن الفساد‪ ،‬ولو تعرض المرون للستشهاد‪،‬‬
‫ثم ت جد ب عض المتعلق ين بش به التأو يل الفا سد‪ ،‬يزعمون أ نه ل ب ّد في الن صيحة من‬
‫إذن الحكومـة‪ .‬وأعجـب مـن ذلك أن تجـد الفقهاء المفرطيـن‪ ،‬يؤيدون كلمـة الحـق‬
‫‪71‬‬
‫والعدل والخيـر إذا سـموها‪ ،‬فإذا رفضتهـا الحكومـة اعتـبروا قرار الحكومـة ملغيا‬
‫مشروع ية ال مر بالمعروف والن هي عن المن كر‪ ،‬محتج ين بأن كل أ مر خل في‪ ،‬إذا‬
‫اجتهد فيه السلطان‪ ،‬فإن اجتهاده يحسم النزاع ويمنع العمل بما عداه‪.‬‬
‫وهـم يقيسـون فيخطئون القياس‪ ،‬ويظنون الحاكـم المتغلب الذي صـار شرعيا‬
‫شرع ية واقع ية بغلب ته‪ ،‬وزاد الط ين بلة با ستبداده وجوره‪ ،‬وثلث ذلك بن قص تقواه‬
‫ورشاده‪ ،‬وربع ذلك بضعف اجتهاده‪ ،‬كالمام العادل الكفي المجتهد‪ ،‬كالخليفة الراشد‬
‫عمر بن الخطاب أو علي بن أبي طالب وفي ذلك عدد من الوهام‪:‬‬
‫الول‪ :‬أن الخليفة الراشدي لم يلزم الناس باجتهاده‪.‬‬
‫الوهم الثاني‪ :‬فإن صح أو رجح أن عمر وأبا بكر‪ ،‬نفذا باجتهادهما في بعض‬
‫المور‪ ،‬وتركـا اجتهادات أهـل الشورى‪ ،‬ل بالحكـم الشرعـي الذي ل اجتهاد فيـه‪،‬‬
‫تارك ين رأي غالب ية المجتهد ين من الشورى‪ ،‬فذلك أ مر نادر‪ ،‬و هو إن صح ل يلزم‬
‫ال مة على مر الجيال‪ ،‬لنه ما ل يشرعان‪ ،‬بل ه ما متبعان‪ ،‬ك ما نص أ بو ب كر في‬
‫خطبة بيعته‪.‬‬
‫الو هم الثالث‪ :‬أن الخلفاء على كل حال من المهدي ين الراشد ين‪ ،‬الذ ين أمرت‬
‫ل لمجمل‪ ،‬أو تطبيقا لحكم‪ ،‬ل تغييرا في سنة‬ ‫المة باتباع سننهم‪ ،‬عندما تكون تفصي ً‬
‫نبوية‪ .‬الرابع أن حديث المر بإتباع سنن الراشدين فيه مقال – ولو صح لما قيس‬
‫الموي والعبا سي والطوائفي المتغلب بالراشدي المنت خب المجت هد الورع‪ ،‬الذي هو‬
‫خلصة الصفوة‪:‬‬
‫أيهاالمنكح الثريا سهيل× عمرك ال كيف يلتقيان‬
‫هي شاميـة إذا مـا استقلت× وسهيل إذا استقل يمان‬

‫الوهم الخامس ‪ :‬وأكبر من ذلك أنهم ينظرون إلى الحاكم الجائر‪ ،‬نظرة أعلى‬
‫من نظرتهم إلى الخليفة الراشد‪ ،‬وكأن له حق التحليل والتحريم‪ ،‬لقد كان السلطان‬
‫المتغلب فـي المصـادر الشرعيـة‪ ،‬حاكما مسـتبدا جائرا يجـب أمره ونهيـه‪ ،‬ووعظـه‬
‫وزجره‪ ،‬وأطره وق صره‪ ،‬ثم صار هو الذي يأ مر وين هي المجتهد ين والمجاهد ين‪،‬‬
‫وهـو الذي ينصـح الناصـحين والواعظيـن‪ ،‬وصـار هـو الذي يحدد مجال المـر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وهو الذي يأمر بالتوقيف والسجن والتعذيب‪ ،‬وكأنهم‬
‫اعتبروا ولي أمر على المة‪ ،‬ل ولي أمر للمة‪ ،‬وربطت الحدود بموافقة السلطان‬
‫أيضا‪ ،‬وأصـبحت عبارة (ولي المـر أدرى بالمصـلحة) وعبارة (ولي المـر يحسـم‬
‫التنازع عند الخلف) أصلً فقهيا مرعيا‪ ،‬على مستوى القضاء والتشريع‪.‬‬
‫ومن يتأملها بعين الشريعة‪ ،‬يجدها بدعة صرحية تؤدي عند التطبيق إلى أن‬
‫يكون (ال سلطان) ظلً ل في الرض‪ ،‬ل يحا سبه إل الذي وله‪ ،‬بل صار من ح يث‬
‫‪72‬‬
‫الواقع المعيش‪ ،‬مصدرا من مصادر التشريع‪ ،‬يحلّل ويحرم‪ ،‬ويبرئ ويجرم‪ ،‬ويقضي‬
‫ويفتـي‪ ،‬حتـى صـار يقصـر أهـل الدعوة والصـلح عـن قولة الحـق قصـرا‪ ،‬وصـار‬
‫يأطرهم على السكوت والتقية والمجاراة أطرا‪ .‬وأمسك بيديه أعنة السلطات الثلث‪:‬‬
‫تنفيذ ية وتشريع ية وقضائ ية‪ ،‬فاع تبرته ثقافت نا القضائ ية في صياغتها العبا سية هو‬
‫القاضـي‪ ،‬وإنمـا القضاة نوابـه‪ ،‬فأفسـد فـي الرض وعاث‪ ،‬ترى أهذا هـو القانون‬
‫الدستوري في الشريعة؟‬
‫وكان الحا كم في الشري عة ال سماوية‪ ،‬و في الد ساتير الرض ية‪ ،‬إن ما هو نائب‬
‫عن المة‪ .‬يجوز للمة التي أنابته‪ ،‬أن تأمره وتنهاه‪ ،‬وتوجهه وتنبهه‪ ،‬ونص بعض‬
‫الفقهاء الرا سخين‪ ،‬كا بن عط ية الندل سي‪ ،‬على أن شورى ال مة شرط في الحا كم‪،‬‬
‫فإذا لم يشاور وجب عزله‪ ،‬إذ خرج عن مقتضى النيابة‪.‬‬
‫وجرت العادة‪ ،‬بأن للموكل حق توجيه موكله‪ .‬فصار الحاكم هو الوكيل الذي‬
‫يتصـرف فـي شؤون موكله‪ ،‬وصـار النائب الذي يتصـرف بشؤون مـن أنابـه‪ ،‬وكأن‬
‫المة سفيهة يجب الحجر عليها‪ ،‬أو طالب صغير ل ب ّد له من ولي رشيد‪.‬‬
‫بمثـل فقـه المداهنـة ضاعـت الندلس‪ ،‬وأباح التتار بيضـة السـلم‪ ،‬ودنـس‬
‫النصـارى بيـت المقدس‪ ،‬وألقـت خيول المسـتعمرين روثهـا فـي المسـاجد‪ ،‬وديسـت‬
‫المصـاحف‪ ،‬وهجـم السـتعمار وعاث ‪ ،‬وضاعـت التربيـة‪ ،‬وفسـدت الخلق‪ ،‬وسـاد‬
‫النحلل والضياع‪ ،‬وأهملت الزراعة وال صناعة وضاع القت صاد وانت شر الف ساد في‬
‫البلد‪ ،‬وهمش دور المناسك‪.‬‬
‫ول زال بعـض المنتسـبين للديـن‪ ،‬يشيعون فقـه المداهنـة‪ ،‬الذي راياتـه مـن‬
‫مح كم ن صوص‪ ،‬ودواخله هروب ونكوص كأض عف اليمان والنكار بالقلب‪ ،‬والتق ية‬
‫والنعزال‪ ،‬وسـد الذرائع والصـبر على جور الحكام‪ ،‬مـا داموا يصـلون‪ ،‬واعتبار‬
‫منظومة فقه النكوص من الحكمة!! واعتبار إنكار المنكرات السياسية من الفتنة‪.‬‬
‫فالقول باشتراط إذن السلطان قول بغير دليل‪ ،‬فالمر والذن‪ ،‬والناهي والمانع‬
‫في كل أ مر‪ ،‬إن ما ي ستمد إذ نه من الد ستور الذي شر عه ال وأو كل لل مة مه مة‬
‫تنفيذه‪ ،‬فال مة هي المخولة بتنف يذ أحكام الشري عة ‪ ،‬ف هي ول ية أ مر نف سها‪ ،‬ول يس‬
‫ل حد من المراء أو الفقهاء أن ين هى عن ما نص الشارع على ال مر به أو رأ ته‬
‫المـة مـن مصـالحها‪ ،‬ول سـيما أن المـر بالمعروف والنهـي عـن المنكـر‪ ،‬يفيـد‬
‫الوجوب‪ ،‬لن كل أمـر ون هي فى القرآن وال سنة‪ ،‬ل يس هناك قري نة ت صرفه عـن‬
‫الوجوب الى الباحة والستحباب فإنما هو للوجوب‪.‬‬
‫الوهـم السـادس‪ :‬ينسـى أولئك الواهمون‪ ،‬القاعدة الشرعيـة القطعيـة‪ ،‬التـي‬
‫أسس عليها ال صوليون –وخل صتها‪ :-‬إن ال مر الذي تجب طاعته هو ال‪ ،‬أما‬
‫العبد فليس له ولية على عبد مثله‪ ،‬لنه مملوك مثله‪ ،‬فكلهما عبد ال من يجب‬
‫عليهما أن يطيعا المر العلى‪.‬‬
‫‪73‬‬
‫وال مر العلى ب عد ال‪ ،‬هم أ هل ال حل والع قد من وجوه الناس‪ ،‬وأ صحاب‬
‫الرأي وال خبرة‪ ،‬مِن مَن ي سعون في الم صالح العا مة‪ ،‬ويكت سبون ث قة ال مة‪ ،‬في‬
‫رأيهـم وخـبرتهم‪ ،‬وحماسـتهم وإخلصـهم‪ ،‬ونظافـة جيوبهـم‪ ،‬وتنتخبهـم المـة‬
‫وتقدمهـم للحديـث باسـمها‪ ،‬فهـم يقومون بمـا يحتاج مـن الراء إلى بلورة‪ ،‬وهـم‬
‫أخيرا للتعـبير عـن مصـالح المـة كالقنطرة أي أنهـم يجسـدون أمريـن‪ :‬الول‪:‬‬
‫مرجعيتهـا الثانـي ‪ :‬ويجسـدون أيضـا إجماعهـا كمـا صـرح عديـد مـن المفسـرين‬
‫الراسـخون (كالفخـر الرازي والنيسـابوري ومحمـد عبده) فـي تفسـير آيتـي أولي‬
‫المر في سورة النساء‪ ،‬وكما يدل عليه ظاهر قول ابن تيمية‪.‬‬
‫فمن نفّذ خلف أمر ال أو أصدر أمرا من دون شورى المة فل طاعة له‪،‬‬
‫لنه أخلّ بمبدأ التوكيل والتخويل‪ ،‬فل تجوز طاعة الحاكم في قانون لم يصدر عن‬
‫رأي ال مة‪ ،‬ل نه ع صت ال الذي حدد مرجع ية الطا عة بأمر ين‪ :‬مح كم الشري عة‬
‫ورأي أ هل ال خبرة والن صح والع قل الجدير ين برت بة أ هل ال حل والع قد‪ ،‬ك ما قال‬
‫عليه الصلة والسلم «ل طاعة لمخلوق في معصية الخالق»‪.‬‬
‫واشتراط إذن السـلطان‪ ،‬إنمـا هـو مـن تحكيـم الرأي والهوى فـي شرع ال‪،‬‬
‫فمن منع الناس‪ ،‬بل ‪ -‬كما قال المام الشاطبي «من منع نفسه من تناول ما أحل‬
‫ال‪ ،‬مـن غيـر عذر شرعـي‪ ،‬فهـو خارج عـن سـنة النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‪،‬‬
‫والعامل بغير السنة تدينا هو المبتدع بعينه» (العتصام‪.)59/1 :‬‬
‫ومن احتكم إلى رأيه المجرد من الدليل الشرعي‪ ،‬فقد ابتدع‪ ،‬كما قال المام‬
‫الشاطبي أيضا «المبتدع قد نزل نفسه منزلة المضاهي للشارع‪ ،‬لن الشارع وضع‬
‫الشرائع‪ ،‬وألزم الخلق الجري على سننها‪ ،‬وصار هو المتفرد بذلك‪ ،‬لنه حكم بين‬
‫الخلق‪ ،‬فـي مـا كانوا فيـه يختلفون‪ ،‬وإن ل فلو كان الشرع مـن مدركات الخلق‪ ،‬لم‬
‫تنزل الشرائع‪ ،‬ولم يبـق الخلف بيـن الناس‪ ،‬ول احتيـج إلى بعـث الرسـل عليهـم‬
‫السلم» (العتصام‪.)66/1 :‬‬

‫]‪[50‬‬
‫ج – كيف يستأذن السلطان في الحسبة عليه؟‬
‫ثم كيف يشترط للمر بالخير‪ ،‬والنهي عن الشر إذن السلطة التنفيذية‪ ،‬وهي‬
‫الجهـة التـي صـدر منهـا منكـر الجور والهوى‪ ،‬والغفلة والخطـأ‪ ،‬أوالبدعـة والغلط‪،‬‬
‫فكيف يمكن إنكار المنكر‪ ،‬إذا كان ل ب ّد من استئذان الحاكم في النكار عليه نفسه‪،‬‬
‫كيـف يتـم الحتسـاب فـي المجال الذي سـماه العلماء (المنكرات السـلطانية)‪ ،‬وكيـف‬
‫ين صف ال سلطان النا صحين والم صلحين من نف سه‪ ،‬أل تكون الم سألة ك ما قال أ بو‬
‫الطيب المتنبي‪:‬‬
‫‪74‬‬
‫يـا أعدل الخلـق!‪ ،‬إل في معاملتـي!× فيك الخصـام وأنت الخصم والحكـم!!‬
‫ولذلك رد المام الغزالي ح جج فقهاء المداه نة وال تبرير‪ ،‬فذ كر أن تخ صيص‬
‫المـر بالمعروف‪ ،‬بتفويـض المام تحكـم ل أصـل له‪ ،‬وتسـاءل «كيـف يكون المـر‬
‫محتاجا إلى إذن المام‪ ،‬وأف ضل درجا ته كل مة حق ع ند إمام جائر‪ ،‬فإذا جاز الح كم‬
‫على المام وهو راغم‪ ،‬فكيف يحتاج إلى استئذانه» ثم قال‪« :‬إذا كان الوالي راضيا‬
‫فذاك‪ ،‬وإن كان ساخطا ف سخطه من كر‪ ،‬ي جب النكار عل يه ف يه!! فك يف يحتاج إلى‬
‫إذنه في النكار عليه» (الحياء‪.)288/2 :‬‬
‫اكـد ذلك المام النووي فـى شرح صـحيح مسـلم وحكـى الجماع على وجوب‬
‫إصلح السلطان وهو راغم فقال‪ :‬قال إمام الحرمين (الجويني) والدليل على إجماع‬
‫المسلمين أن غير الولة‪ ،‬في الصدر الول والصدر الذي يليه‪ ،‬كانوا يأمرونهم ]أي‬
‫الحكام[ بالمعروف‪ ،‬وينهون هم عن المن كر‪ ،‬مع تقر ير الم سلمين إيا هم ]على ذلك[‪،‬‬
‫وترك توبيخهم على التشاغل بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير ولية»‬
‫ومـن يرد أمثلة حيـة لذلك؛ يجدهـا فـي كتاب المجاهـد الشهيـد عبـد العزيـز البدري‬
‫( علماء فى مواجهة الحكام ) رحمنا ال وإياه‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫]‪[51‬‬

‫المقالة الرابعة عشرة‬


‫التسامح فوق النصاف‪:‬‬
‫اللهم اغفر لقومي فإنهم ل يعلمون‬
‫أ – ما يقال لك إل ما قيل للرسل من قبلك‪:‬‬
‫ـة‪ ،‬حارس شجرة العدل‬ ‫ـياسي خاصـ‬ ‫ـة والسـ‬ ‫ـي عامـ‬‫ـلمي المدنـ‬
‫الجهاد السـ‬
‫المبار كة‪ ،‬التـي ترفرف أغصـانها وظللهـا في صـحراء الجفاف‪ ،‬وقبـس مـن النور‬
‫يمزق طبقات الديجور‪ ،‬والمجاهد السلمي بعلمه ويقينه أجدر الناس بأن يؤثر الجل‬
‫الباقي‪ ،‬على العاجل الفاني‪ ،‬وأجدر الناس أن يضرب نموذج التضحية‪ ،‬بكل ما يحبه‬
‫النانيون أ هل الشهوات من م تع وملذات‪ ،‬وتعلق بزي نة وزخرف الحياة‪ ،‬و ما في ها‬
‫من أهل وأولد‪ ،‬وجاه وشهرة ومال‪ ،‬وهو بسلوكه يوقظ الهائمين وراء السراب في‬
‫حظوظ الن فس العاجلة‪ ،‬في شهوات الريا سة‪ ،‬وشبهات الف كر‪ ،‬ويو قظ الغارق ين في‬
‫نومة الكهف‪.‬‬
‫و من أ جل ذلك ف هو أجدر الناس‪ ،‬و هو ير فع ب صره إلى ال سماء‪ ،‬مشفقا على‬
‫الذيـن خفضوا أبصـارهم إلى الرض‪ ،‬بالصـبر على الذى‪ .‬ومسـامحة المخالفيـن‪،‬‬
‫وتل مس العذار ل هم‪ ،‬وترك سوء ال ظن ب هم‪ ،‬وترك تفت يش نيات هم‪ ،‬والتحلي بالحلم‬
‫وسعة الصدر‪ ،‬والتجمل بالعفو والصفح‪ ،‬والبتعاد عن رد الفعل المتشنج‪.‬‬
‫لم تجر العادة أن يستجيب‪ ،‬من شرب خمر السلطة والشهرة والمال سريعا‪.‬‬
‫لن الحا كم والرئ يس والمد ير الذي ألف الثناء والمد يح‪ ،‬من المحيط ين به‪ ،‬من‬
‫المداهنيـن والمرائيـن والمنافقيـن‪ ،‬ومـن الخادعيـن والمخدوعيـن‪ ،‬مـن حاشيةٍ‬
‫وموظف ين ونواب ومرءو سين‪ ،‬لم ت جر العادة أن يتهلل وج هه فرحا‪ ،‬بكل مة حق‬
‫وعدل‪ ،‬ولذلك ل عجـب إذا نصـب مثلث اغتيال المصـلحين‪ :‬فمـد شباك بوليسـه‪،‬‬
‫وانتضى سيف قضائه‪ ،‬واعتلى منبر إعلمه‪ ،‬وحاول قمع كلمة الحسان والفضل‪،‬‬
‫لن القوة غيـر المعقولة بعقال الشورى الشعبيـة قـد اعتادت أن ل تسـأل عـن مـا‬
‫تفعل‪ ،‬ومن شب على شيء صعب تعديله عنه كما قال الشاعر‪:‬‬
‫والنفس كالطفل إن تهمله شب على× حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم‬
‫ول عجب أن يثور الحاكم ويهيج‪ ،‬وأن يشعر أن المجاهد السلمي المدني يريد‬
‫أن يخرق هيبته‪ ،‬أو أنه يريد كرسيه وما تحته من وفر‪ ،‬وما حوله من مجد‪ ،‬فهذا‬
‫‪76‬‬
‫أ مر مألوف في مد ير الدائرة ال صغيرة‪ ،‬إذا جاء النا صح بأمره وينهاه‪ ،‬أو يذ كر له‬
‫عجزه أو جهله‪ ،‬فإذا به ينتفض ويرغى ويزبد‪ ،‬ويقول له‪ :‬تعال اجلس مكاني‪ ،‬فأدر‬
‫العمـل أفضـل منـي‪ .‬أو يقول‪ :‬أنـت تطمـح إلى هذا الكرسـي‪ ،‬ولو لم يقلهـا بصـريح‬
‫العبارة‪ ،‬لسرها في نفسه‪ ،‬وقالها ل من يثق به من صحبه‪ .‬ح تى إمام الم سجد فى‬
‫الحارة‪ ،‬لو نصـح بشيـء لمـا كان سـريع السـتجابة ــ إن اسـتجاب ــ لن ثقافـة‬
‫النصيحة والنقد والتقويم‪ ،‬ذات حظ سيئ في مجتمعاتنا المتخلفة‪.‬‬
‫وأكثـر الناس فـي مجتمعاتنـا السـلمية‪ ،‬يكرهون التضحيـة والعمـل الخيري‬
‫العام‪ ،‬ويحبون ظلل النانيـة والثرة‪ ،‬ويسـتكينون للراحـة ولو فـي مسـتنقع الذل‪،‬‬
‫ولذلك ي صعب علي هم أن يت صوروا الطموح النموذ جي المثالي‪ ،‬ال ساعي في سبيل‬
‫المصـالح العامـة ول سـيما الكـبرى‪ ،‬فهـم يقيسـون المجاهـد السـلمي المدنـي على‬
‫أنفسـهم‪ ،‬فليعـف عنهـم وليسـامحهم‪ ،‬إذا تصـوروه طامعا فـي مال‪ ،‬أو طامحا إلى‬
‫ـة‪ ،‬أو طالب شهرة وجاه‪ ،‬أو حاقدا على أشخاص أو‬ ‫ـن وظيفـ‬ ‫ـة‪ ،‬أو باحثا عـ‬
‫مكانـ‬
‫مؤسسات‪ ،‬أو ثائرا منتقما لنفسه‪ ،‬بسبب ظلم أو حيف أصابه‪ ،‬أو بسبب حرمانه من‬
‫منصب أو مكسب‪ ،‬ولذلك فإن المصلح أولى الناس بالصفح‪:‬‬
‫كن كالنخيـل عن الحقـاد مرتفعـا× بالصخر يرمـي فيلقي أطيب الثمـر‬

‫ـن الفقهاء‬‫ـم وجدوا كثيرا مـ‬ ‫ـم والناس أيضا معذورون‪ ،‬لنهـ‬ ‫ـم إن الحاكـ‬‫ثـ‬
‫والعلماء والخـبراء والمفكريـن‪ ،‬يتظاهرون بلباس الخلص والدفاع عـن المصـالح‬
‫العامة‪ ،‬وهم‪-‬عفوا أوقصد‪ ،-‬يخدمون مصالح خاصة أو فئوية ثانوية‪ .‬وبعض أهل‬
‫العلم يقدم الن صائح والفكار‪ ،‬ال تي تو صله إلى ش خب أثداء البقرة الحلوب‪ ،‬فينب غي‬
‫للمصـلحين توطيـن النفـس على دفـع الثمـن‪ ،‬بالصـبر على المحـن فـي أنفسـهم أو‬
‫أموال هم أو أعراض هم أو راحت هم أول‪ .‬والحلم والتحلم وال صبر والت صبر على الذى‬
‫ثان يا‪ ،‬ف ما من م صلح إل وات هم بش تى الت هم وبذلك أر شد ال نبيه صلى ال عل يه‬
‫وسلم ‪ ‬ما يقال لك إل ما قيل للرسل من قبلك‪ .‬وكما قيل " من ركب طريق الصلح‬
‫فقد تصدق على الناس بعرضه"‪.‬‬
‫ثـم إن داعـي الصـلح نفسـه‪ ،‬ليـس مـبرءا مـن الذاتيـة‪ ،‬مهمـا حرص على‬
‫الموضوعية‪ ،‬فله عيوب صغرى أو كبرى‪ ،‬وهنات هينات أو غير هينات‪ ،‬وهو على‬
‫كل حال نب تة فى هذا الح قل‪ ،‬ول يس بريئا من الزلل‪ ،‬فى أموره العا مة والخا صة ‪،‬‬
‫ول يس مع صوما من الخ طأ عند ما ين صح ف قد تكون ف يه عجلة يظن ها حما سة‪ ،‬و قد‬
‫تكون ف يه حدة يظن ها صراحة‪ ،‬و قد يدف عه التو تر والحباط إلى التق صير في حقوق‬
‫مـن حوله مـن أهـل وأصـحاب‪ ،‬وقـد يكون فيـه نزوع الى الشهرة والتصـدر‪ ،‬وأكثـر‬
‫المتحمسين للصلح‪ ،‬المعروفين النادر بالخلص‪ ،‬ل يكاد يسلم من حب الزعامة‪،‬‬
‫‪77‬‬
‫ولذلك قال أيوب ال سختياني عن الفقهاء « حب الرئا سة آ خر ما ينزع من رؤوس‬
‫الصديقين»‪ .‬وينبغي للمصلح أن يواصل الحرص على التخلص من هذا الداء المكين‬
‫في النفس البشرية‪،‬وقد ل يدرك هذه النواقص فيظن أن الناس إزوروا عن الخير‪،‬‬
‫لنهم ل يريدون الصواب‪ ،‬ومن أجل ذلك ل بد له من النقد الذاتي ‪ ،‬بأن يسأل من‬
‫حوله‪ :‬ما هي عيوبي على طريقة أبى بكر رضى ال عنه ‪ " :‬رحم ال امرءا أهدى‬
‫إلى عيوبي " وما دام يخطئ فليعذر الخطائين‪.‬‬
‫]‪[52‬‬
‫ب – ل يأس من روح الله‪:‬‬
‫ول ينبغي لداعية الصلح أن ييأس‪ ،‬إذا وجد الناس من حوله يهمسون أو‬
‫يجاهرون‪ ،‬ويكيلون له الت هم وي سيئون به الظنون‪ ،‬بل ينب غي له أن يد فع بال تي‬
‫هي أحسن‪.‬‬
‫ف في المجتمعات المتخل فة ينب غي للمح سنين النشط ين أن يتوقعوا كثيرا من‬
‫الذى‪ ،‬بأ سباب عديدة‪ ،‬من ها الح سد والمناف سة‪ ،‬فضلً عن المخال فة والخ صومة‪،‬‬
‫ولذلك قال ابن تيمية "ما خل جسد من جسد‪ ،‬فالكريم يكتمه واللئيم يعلنه"‪.‬‬
‫فعلى المصلح أن يتعود الصفح والتغافل‪ ،‬حتى يقنع الناس بسلمة طويته‪،‬‬
‫ف قد يع تبرونه مندفعا مغرورا‪ ،‬أو حاقدا موتورا‪ ،‬أو مريضا نف سيا‪ ،‬ي حب ال صراع‬
‫والمشاكسة‪ ،‬أو مجنونا مخبولً‪.‬‬
‫لن كثيرا مـن الناس‪ ،‬يفهمون الصـحة النفسـية على غيـر مـا شرع ال‪،‬‬
‫فيظنونهـا التوافـق مـع القيـم والعراف السـائدة‪ ،‬ولو كانـت متخلفـة فاسـدة‪ ،‬وأنهـا‬
‫القدرة على اتقان "السـترخاء" ‪ ،‬ول يدرون أن الصـحة النفسـية الحقيقيـة بالمعنـى‬
‫الشر عي الموضو عي‪ ،‬هي الع مل اليجا بي الم ستمر‪ ،‬وال حض على الن فع والتحذ ير‬
‫من الضر‪ ،‬ذلك أمر غفل عنه كثير من الناس‪.‬‬
‫وكذلك ل ينب غي للمجا هد ال سلمي المد ني أن ييأس إذا و جد من ذوي القر بى‬
‫والصداقة‪ ،‬أو من غيرهم من يحذره من العواقب‪ ،‬ومن يعتبره حسن النية ساذجا‪،‬‬
‫متهورا يلقـي نفسـه فـي المهالك‪ ،‬متعجلً متسـرعا‪ ،‬أو غرا ل رأي له‪ ،‬أو متعصـبا‬
‫متزمتا‪ ،‬أو خياليا مثاليا‪ ،‬أو عنيدا متصـلبا‪ ،‬ينطـح برأسـه الصـغير الهـش‪ ،‬هضبـة‬
‫الجبل الصلب‪ ،‬وليس مهم إذا رددوا رددوا أمامه قول الشاعر‪:‬‬
‫كناطح صخرة يومـا ليوهنهـا×‬
‫فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل‬
‫فالمجا هد ال سلمي ع ند ضامري الضمائر المشغول ين بالنان ية؛ مغا مر أهوج‪،‬‬
‫كالوعـل الذي ينطـح الصـخرة برأسـه‪ ،‬فيتحطـم رأسـه‪ ،‬وتبقـى الصـخرة‪ ،‬وهذا فـي‬

‫‪78‬‬
‫ميزان التفكير القريب صحيح‪ ،‬أما في ميزان التفكير البعيد فباطل هراء‪ ،‬ورحم ال‬
‫المام أح مد‪ ،‬عند ما سمع أن أ حد شهداء الرأي‪ :‬اح مد بن ن صر الخزا عي في فت نة‬
‫خلق القرآن قد خر صريعا فقال‪ :‬ما أ صلبه و ما أجلده أو كل مة نحو ها‪ ،‬ولم ي قل‪:‬‬
‫مسكينٌ ناطح الصخرة فلقى حتفه!!‬
‫]‪[53‬‬
‫ج– طريق المصلحين‪:‬‬
‫ل عـن‬ ‫وينبغـي للمجاهـد المدنـي والسـياسي أن يتذك ّر سـير الصـالحين فض ً‬
‫النـبياء والمرسـلين‪ ،‬ليتذكّـر أن سـلوك المخاطـبين مـن الرؤسـاء والمترفيـن‬
‫والمسـتكبرين متشابـه‪ ،‬رغـم اختلف الزمنـة والمكنـة‪ ،‬كأنهـم توارثوه كابرا عـن‬
‫كابر‪ ،‬فليعذرهـم وليصـفح عنهـم‪ ،‬وليدرب نفسـه على التحمـل حتـى يتحمـل وعلى‬
‫التحلم ح تى يحلم‪ ،‬وعلى الت صبر ح تى ي صبر‪ ،‬وعلى التش جع ح تى يش جع فالتح مل‬
‫والحلم وال صبر والشجا عة من الخلق المكت سبة‪ ،‬ال تي ينال حظ من ها غ ير قل يل‪،‬‬
‫بالرياضة والتمرين والتجربة‪.‬‬
‫وليتذكّر أ نه ل يم كن أن ي تم جلب خ ير ول د فع شر‪ ،‬إل بال صبر والتح مل‪،‬‬
‫ولذلك قرن ال ال مر بال حق بال صبر فقال تعالى في ما حكاه عن لقمان و هو ي عظ‬
‫ابنه‪ :‬يا بنيّ أقم الصلة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن‬
‫ذلك من عزم المور‪[ ‬لقمان‪.]17 :‬‬
‫وليتذكّر موا قف ال صالحين وال صابرين‪ ،‬قال خباب بن الرت ر ضي ال ع نه‪:‬‬
‫«شكونا إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة‪،‬‬
‫فقلنا‪ :‬أل تنتصر لنا؟ أل تدعو لنا؟ فقال‪ :‬قد كان من قبلكم يؤخذ بالرجل‪ ،‬فيحفر له‬
‫في الرض‪ ،‬فيج عل في ها‪ ،‬ثم يؤ تى بالمنشار‪ ،‬فيو ضع على رأ سه‪ ،‬فيج عل ن صفين‪،‬‬
‫ويمشـط بأمشاط الحديـد‪ ،‬مـا دون لحمـه وعظمـه‪ ،‬مـا يصـده عـن ديـن ال» (رواه‬
‫البخاري)‪.‬‬
‫وليتذكّر صفح ال نبياء والمرسلين‪ ،‬الذي صوره القرآن الكريم في مواضع‬
‫كثيرة‪ ،‬كقول بعضهم‪ :‬وما لنا ألّ نتوكّل على ال وقد هدانا سُبُلنا ولنصبرنّ على‬
‫ما آذيتمونا وعلى ال فليتوكّل المتوكّلون‪[ ‬إبراهيم‪.]12 :‬‬
‫وليتذكّر اليات الكريمة التي أمرت بالصبر وأوصت به كقوله تعالى‪  :‬يا أيّها‬
‫الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتّقوا ال لعلكم تُفلحون‪[ ‬آل عمران‪]200 :‬‬
‫وقوله‪ :‬وبشّر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا ل وإنّا إليه راجعون‬
‫* أولئك عليهـم صـلوات مـن ربّهـم ورحمـة وأولئك هـم المهتدون‪[ ‬البقرة‪-157 :‬‬
‫‪.]155‬‬
‫وليتذكّر الحاد يث الشري فة‪ ،‬كقوله صلى ال عل يه و سلم‪ « :‬من يرد ال به‬
‫‪79‬‬
‫خيرا يصـب منـه» (رواه البخاري) وقوله‪« :‬إن عظـم الجزاء مـع عظـم البلء‪ ،‬وإن‬
‫ال إذا أ حب قوما ابتل هم‪ ،‬ف من ر ضي فله الر ضا‪ ،‬و من سخط فله ال سخط» (رواه‬
‫الترمذي وابن ماجه)‪.‬‬
‫فل ب ّد للمجاهد من أن يرد السيئة بالحسنة‪ ،‬والغضب بالحلم‪ ،‬والعنف بالرفق‪،‬‬
‫والعدوان بالصـفح‪ ،‬وأن يحذر مـن السـتفزاز‪ ،‬الذي يلجئه إلى الدفاع عـن الذات‪،‬‬
‫والرد العاط في الهائج‪ ،‬و قد يقوده إلى التطرف‪ ،‬ويبعده عن ح سن الت صرف‪ ،‬فيح يد‬
‫عن سُنّة العدل والحسان‪ ،‬وينزع إلى ما ل يليق بذوي العقول الراجحة‪ ،‬وقد يوقعه‬
‫ذلك التعصب في الباطل والهوى‪.‬‬
‫ولي كن متمثلً بال صالحين وال صديقين‪ ،‬الذ ين يندر أن ي جد من هم من لم يب تل‬
‫ل عن ال نبياء والمر سلين‪ ،‬فلي صفح وليغ فر‪ ،‬ولي كن شعاره قولة‬ ‫في ذات ال‪ ،‬فض ً‬
‫أحد النبياء‪ ،‬حينما ضربه قومه حتى أدموه‪ ،‬كما ورد في الحديث‪ ،‬قال عبد ال بن‬
‫م سعود ر ضي ال ع نه‪« :‬كأ ني أن ظر إلى ر سول ال صلى ال عل يه و سلم‪ ،‬يح كى‬
‫نبيا من النبياء صلوات ال وسلمه عليهم‪ ،‬ضربه قومه‪ ،‬فأدموه‪ ،‬وهو يمسح الدم‬
‫عن وجهه‪ ،‬ويقول‪ :‬اللهم اغفر لقومي فإنهم ل يعلمون» (رواه البخاري ومسلم)‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫]‪[54‬‬

‫المقالة الخامسة عشرة‬


‫ح َّ‬
‫ي على الجهاد السياسي السلمي‬
‫د‬
‫أ – إغفال أولوية الصلح السياسي هو الذي ه ّ‬
‫بيتنا‪:‬‬
‫هذا جهاد ال سلم الداخلي في صفائه‪ ،‬وحياط ته شؤون ال مة ب سياسة م صالح‬
‫الناس‪ ،‬به تتم حراسة شطري الشريعة‪ :‬إقامة المناسك وإقامة المعائش‪ ،‬تقرره في‬
‫مقاصد الشريعة الكلية‪ ،‬نصوص لفظية واستقراءات معنوية‪،‬صريحة قطعية الدللة‬
‫والورود‪ ،‬أجمـع عليهـا سـلف المـة الصـالح الراشدي‪ ،‬وجسـدها السـلف الموي‬
‫الصـالح ومـن بعده مـن الفقهاء الحرارالذيـن قرروا‪ -‬كمـا ذكـر الغزالي والجوينـي‬
‫والنووي وغيرهـم‪- ،‬أن المـر بالمعروف والنهـي عـن المنكـر عمومـا والصـلح‬
‫السياسي خصوصا واجب‪ ،‬وأن المة ل تبرأ جماعات ول أفرادا‪ ،‬إذا لم يزل المنكر‪،‬‬
‫وأن الذمة ل تبرأ بكلمة أو مطالبة فردية‪ ،‬حتى تزول المنكرات‪.‬ول تزول المنكرات‬
‫إل بالتجمع والتكتل‪ ،‬الذي تقود النخبة فيه الجماهير‪.‬‬
‫ول كن ال مة ال سلمية‪ ،‬جرت على عادات التوا كل والغفلة‪ ،‬فألف الناس كثيرا‬
‫من المن كر ال سياسي‪ ،‬ح تى ك ثر وانت شر‪ ،‬وكرهوا كثيرا من المعروف ح تى ه جر‬
‫واندثـر‪ ،‬حتـى كادوا ل يعرفون هذا معروفا‪ ،‬ول يعتـبرون ذاك منكرا‪ ،‬عنـد ذلك‬
‫أصبحوا غير جديرين بحياة الستقرار والمن‪ ،‬والعزة والكرامة والحرية والمساواة‬
‫والعدالة‪.‬‬
‫وعندمـا بدأ الخلل منـذ العصـر الموي‪ ،‬لم يعالج العلج الشافـي‪ ،‬ولم يؤخـذ‬
‫جهاد ال سلم الداخلي على أ نه جهاد داخلي‪ ،‬أ هم من جهاد الحرب الخار جي‪ ،‬لن أي‬
‫أ مة ل ت ستطيع د فع العدوان الخار جي‪ ،‬ما دا مت تر سف في قيود الطغيان الداخلي‪،‬‬
‫فتدحر جت ال مة من الق مة إلى الحض يض عبر القرون‪ ،‬لن الخلل في المب نى‪ ،‬بدأ‬
‫شرخا صغيرا ضئيلً‪ ،‬ثم ات سع ح تى سقطت ب عض الجدران‪ ،‬ثم توالى ح تى سقطت‬
‫سقوف‪ ،‬ثم انهار المبنى‪.‬‬
‫بدأ الحر يق شرارة صغيرة في الغا بة‪ ،‬من ع قب سيجارة مد خن‪ ،‬ثم انت شر‬
‫دخانا ضئيلً‪ ،‬ح تى صار حريقا م ستطيرا‪ ،‬بدأ شقا صغيرا في ال سد‪ ،‬يت سرب م نه‬
‫الماء نقطا وقطرات‪ ،‬ثم ات سع الخرق‪ ،‬ح تى انهار ال سد وجاء طوفان العرم‪ ،‬فأهلك‬
‫الحرث والنسل‪.‬‬
‫‪81‬‬
‫وهكذا مـر انهيار المـة بأجيال ومراحـل‪ ،‬حيـن فقـد الناس زمام المبادرة‬
‫السـلمية‪ ،‬ولم يفعّلوا مبدأ الجهاد المدنـي‪ ،‬ولم يحولوه إلى تقاليـد وعادات راسـخة‪،‬‬
‫تقاوم النحراف السـياسي‪ ،‬ولم ينشئوا الليات والهياكـل التـي أنشأهـا الغرب اليوم‪،‬‬
‫التي تجمع شتاتها عبارة "المجتمع المدني" فلم يستطيعوا بعد ذلك أي شيء جوهري‬
‫في الصلح‪.‬‬
‫لن ال سلطة الم ستبدة كالو حش يولد صغيرا لطيفا من دون أنياب وأظفار‪ ،‬ثم‬
‫تن مو مخال به وأظفاره وأنيا به‪ ،‬ح تى يش تد بأ سه‪ ،‬فل ي ستطيع أ حد أن يقلم ها‪ ،‬و من‬
‫يقدر على أن يم سك بل يث متو حش‪ ،‬فيقلم أظفاره‪ ،‬كي ل يخ مش‪ ،‬و من ي ستطيع أن‬
‫ينزع أنيابه‪ ،‬كي ل ينهش‪:‬‬
‫ول تلين إذا كانت من الخشب‬ ‫إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ×‬
‫وشيئا فشيئا سقط المسلمون في حفر التأخر‪ ،‬عندما ابتلعت الدولة التجمعات‬
‫الهليـة المدنيـة‪ ،‬وحولت بعضهـا إلى تجمعات حكوميـة‪ ،‬فصـار المجلس وهـو أحـد‬
‫هياكـل التجمعات المدنيـة الهليـة‪ ،‬مؤسـسة رسـمية‪ ،‬تعيـن الدولة إمامـه ومؤذنـه‬
‫وخطيبه وواعظه‪.‬‬
‫ح تى انهار البنيان الداخلي والخار جي معا‪ ،‬ف سامهم الم ستعمر سوء العذاب‪،‬‬
‫وأذاقهـم ألوان القتـل المادي والمعنوي‪ ،‬وأفسـد أخلقهـم‪ ،‬وانتهـب ثرواتهـم‪ ،‬ونشـر‬
‫الك فر واللحاد في حيات هم‪ ،‬وواك به الطغيان الداخلي‪ ،‬فا ستبد وت جبر واحت كر الدارة‬
‫والرئاسة‪ ،‬ونهب الموال‪ ،‬واستعبد المة‪ ،‬فذلت المة بعد عزة‪ ،‬وأهينت بعد كرامة‪.‬‬
‫م صداقا لقول الر سول الكر يم‪« :‬ل يقدس ال أ مة ل يق ضي في ها بال حق‪ ،‬ول يأ خذ‬
‫الضعيف حقه من القوى غير متعتع» (رواه الطبراني والبزار وابن ماجه)‪.‬‬
‫وبذلك و صلت ال مة إلى النتي جة الطبيع ية‪ ،‬لهمال التوا صي بالجهاد ال سلمي‬
‫الداخلي‪ ،‬وال مر بالمعروف المد ني والن هي عن الفوا حش‪ ،‬فأذاق ها ال العقاب الذي‬
‫ل يم كن أن يتخلف‪ ،‬إذ إ نه جار على سنن ال الجتماع ية ال تي ل تتبدل ول تتغ ير‬
‫« سنة ال ولن تجد ل سنة ال تبديلً‪ ،‬ولن تجد ل سنة ال تحويلً» وذاق العذاب فيها‬
‫العا مة والخا صة‪ ،‬والرجال والن ساء‪ ،‬والطفال والشيوخ‪ ،‬وأ هل العلم وأ هل الج هل‪،‬‬
‫وصـدق رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم‪« :‬إن الناس إذا رأوا الظالم‪ ،‬فلم يأخذوا‬
‫على يديه‪ ،‬أوشك أن يعمهم بعقاب عنه» و‪«:‬ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي‪ ،‬وهم‬
‫أعز وأكثر‪ ،‬مِن مَن بعمله ثم لم يغيروه‪ ،‬إل عمهم ال منهم بعقاب»‪.‬‬
‫]‪[55‬‬
‫ب – جهاد السلم الداخلي أولى من جهاد الحرب‬
‫الخارجي لماذا؟‬
‫إن الخلل قد وصـل بال مة إلى غايـة النهيار‪ ،‬حيـث إن حركـة الزمـن توحـي‬
‫‪82‬‬
‫بمز يد من النحدار‪ ،‬إذا لم تن شط حيو ية ال مة ومقاومت ها‪ ،‬و من أ جل أن الخلل قد‬
‫و صل إلى أق صى مداه‪ ،‬ل ب ّد من أ شق الجهاد‪ ،‬ول ب ّد من أن يكون العلج كافيا ل‬
‫أن يكون مجرد شعور ببراءة الذمة‪ ،‬ل ب ّد من معالجة الواقع الرديء‪ ،‬بعلج تكافئ‬
‫قوتـه قوة الداء‪ ،‬وهذا معنـى صـلح الشريعـة لعلج أمراض الزمان والمكان‪ ،‬لن‬
‫الد مل ال صغير قد ا ستفحل‪ ،‬إذ لم يعالج عبر الز من‪ ،‬ح تى صار اليوم خراجا كبيرا‬
‫بحا جة إلى عمل ية جراح ية‪ ،‬وإن لم يتدارك ال مر‪ ،‬فإن ال مة مقبلة على مز يد من‬
‫الفو ضى والفت نة والدمار‪ ،‬وخراب البلد والعباد‪ ،‬ب سبب ض عف الدولة العرب ية من‬
‫الداخل‪.‬‬
‫وهـي أيضا مقبلة على النهيار بسـبب العدوان الخارجـي‪ ،‬الذي شرع منـذ‬
‫قرون‪ ،‬في تفكيك القوة العربية السلمية بعد أن فقدت مجتمعاتها أعراف المجتمع‬
‫المدنـي‪ ،‬التـي تحفـز الناس للوقوف ضـد الختلل والفسـاد‪ ،‬ففككهـا دولً صـغيرة‪،‬‬
‫ارتبطـت معـه بأحلف‪ ،‬وأخضعهـا لنفوذه‪ ،‬وسـعى إلى تفكيـك منظومتهـا التربويـة‪،‬‬
‫ليذيقها الذل والهوان‪ ،‬وليضعها مقطورة تابعة في القطار الطلسي‪.‬‬
‫ول ينبغـي أن يغفـل الناس‪ ،‬ول سـيما دعاة الصـلح‪ ،‬عـن واقـع الدول‬
‫السـلمية الحاضرة عامـة والعربيـة خاصـة‪ ،‬فقـد كان الحاكـم الجائر فـي العهود‬
‫القدي مة‪ ،‬أر حم وأل ين‪ ،‬ف قد كان أ سرة حاك مة‪ ،‬يهم ها ال ستئثار بالح كم والريا سة‪،‬‬
‫والجاه والمال‪ ،‬ولم تتد خل في شؤون الناس‪ ،‬ول في نظام التعل يم‪ ،‬ول في التعا مل‬
‫المالي‪ ،‬ول فـي نظام المعيشـة‪ ،‬ول فـى نظام الخلق والسـرة‪ .‬وإنمـا هـي دولة‬
‫حارسة‪.‬‬
‫أما الدولة الحديثة‪ ،‬فقد فرضت هيمنتها على كافة شؤون الحياة‪ ،‬وتدخلت في‬
‫أخص خ صوصيات النسان‪ ،‬من المهد إلى اللحد‪ ،‬فهي التي تصدر شهادة الميلد‪،‬‬
‫وشهادة الوفاة‪ ،‬وتشكل ثقافة النسان وأفكاره‪ ،‬وتحدد عبر مناهج التعليم معتقداته‪،‬‬
‫وتفرض طرق ت سليته وا ستجمامه‪ ،‬وتحدد بي ته وكيف ية ت صميمه‪ ،‬وتحدد ك يف يق يم‬
‫ومتى يسافر‪ ،‬وتتدخل في شؤونه السرية والمالية والعملية‪.‬‬
‫وأ هم من ذلك ضخا مة ووحش ية و سائل سيطرة الدولة العرب ية الحدي ثة على‬
‫المجتمـع‪ ،‬فهـي تراقبـه عـبر شبكات الهاتـف والقمار الصـناعية‪ ،‬وألوان أجهزة‬
‫التج سس التقن ية‪ ،‬وتمن عه من ح مل أ قل ال سلح‪ ،‬خوفا من أن ي ستخدمه ضد ها‪،‬‬
‫وتمتلك ألوان ال سلحة المتطورة الفتا كة‪ ،‬ال تي تد مر المدن والحرث والن سان معا‪،‬‬
‫ول يمكن أن ينجو الشعب من هذا الخطبوط أو التنين إل بجهاد السلم المدني‪ ،‬فهو‬
‫أهم الحصون الواقية من جورها‪ ،‬وأهم الضمانات السلمية‪ ،‬التي تقيه من بطشها‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫]‪[56‬‬
‫ج – صيانة المسلمين من الكفر أولى من دعوة غير‬
‫المسلمين إلى السلم‪:‬‬
‫فليستيقظ الشيوخ والشبان والكهول‪ ،‬الذين يتوقون إلى الجهاد في سبيل ال‪،‬‬
‫سـائلين ال أن يمنحهـم الشهادة‪ ،‬مدركيـن أن مـن مات ولم يغـز ولم يحدث نفسـه‬
‫بالغزو‪ ،‬مات على شعبـة مـن النفاق‪ ،‬ظانيـن أن الجهاد ل يكون إل فـي أفغانسـتان‬
‫والفيل يبين والبو سنة والشيشان‪ ،‬وأ نه ل يكون إل ضد عدوان الكفار‪ ،‬وأن ل سبيل‬
‫إليه إل بالتدريب على حمل المدفع والرشاش‪ ،‬وركوب المدرعات والدبابات‪.‬‬
‫وليدركوا أن نشر ثقافة المجتمع المدني هو اللة المجربة‪ ،‬التي تحفظ البنيان‬
‫الداخلي مـن النهيار‪ ،‬وأن له الولويـة فـي الجهاد‪ ،‬لن آثار التهاون بهـا خطيرة‪،‬‬
‫تسـببت بانهيار المسـلمين‪ ،‬وضلل كثيـر مـن أفكارهـم‪ ،‬وفسـاد كثيـر مـن أولدهـم‬
‫ون سائهم‪ ،‬فضلً عن ضياع كث ير من أموال هم‪ ،‬في محر قة الجور والفجور‪ ،‬عند ما‬
‫صـارت عونا للكفار المسـتعمرين‪ ،‬يسـتعينون بهـا على حرب المسـلمين‪ ،‬وعلى‬
‫إغوائهـم فـي كـل مكان‪ ،‬وترك الجهاد المدنـي أدى إلى ذهاب العراض والتعرض‬
‫للفتــن والنحراف‪ ،‬والمراض النفســية والعقليــة‪ ،‬وشيوع المخدرات‪ ،‬وتعرض‬
‫المسلمين للفقر والجهل والقهر والمرض‪ ،‬مما جعلهم بيئة صالحة للقيم المبريالية‬
‫الغلبة‪.‬‬
‫ينبغـي البدء بحمايـة المسـلم مـن المبرياليـة والفرنجـة والعلمنـة والهيمنـة‬
‫الجنب ية‪ ،‬ال تي تق ضي على ا ستقلل الذات العرب ية وال سلمية‪ ،‬ول سيما في مهاد‬
‫ال سلم ومراكزه ال كبرى‪ ،‬فهذه الوظي فة أولى من دعوة غ ير الم سلمين في بلدان‬
‫أخرى إلى ال سلم‪ ،‬حقا ل قد قال الر سول صلى ال عل يه و سلم‪« :‬لن يهدي ال بك‬
‫رجلً واحدا خ ير لك من ح مر الن عم»‪ ،‬وهذا تأك يد على ف ضل الدعوة إلى ال سلم‪.‬‬
‫ولكن لن يحفظ ال بالداعية إسلم بيت أو جماعة خير من أن يهدي به ال كافرا‪.‬‬
‫فسلمة التدبير مرتبطة بسلمة التفكير‪.‬‬
‫والرأي كالليل مسود جوانبه × والليل ل ينجلي بإصباح‬
‫مراعاة الولويات تجعـل صـيانة البيـت المقام‪ ،‬أولى مـن الشروع فـي بناء‬
‫جد يد‪ ،‬فلو ظل ب يت ال سلم قويا في مراكزه ال كبرى (الشرق العر بي)‪ ،‬وا ستمرت‬
‫العزة للسلم‪ ،‬لما أضير مسلم في فلسطين ول في البوسنة‪ ،‬ول في أفغانستان ول‬
‫في كشمير‪ ،‬ول في الفيليبين ول في الشيشان‪ ،‬ول في الهند ول في الصين‪ ،‬ول في‬
‫أي مكان في العالم‪ ،‬ولقدم الم سلمون المتأخرون‪ ،‬إل سلم‪ ،‬ب ما لهم من ق يم مدن ية‬

‫‪84‬‬
‫راقية‪ ،‬كما نشره المسلمون الولون في الشرق القصى‪.‬‬
‫اليوم فى بلداننا العربية‪ ،‬صار السلم مهيضا‪ ،‬وصارت العزة لغير المسلمين‪،‬‬
‫والذلة والهوان للعرب‪ ،‬وصرنا كما قال محمود غنيم‪:‬‬
‫اين اتجهت الى السلم فى بلد × تجده كالصقر مقصوصا جناحاه‬

‫لماذا ضعف هذا الصقر؟ لماذا قص جناحاه‪ ،‬ما جناحاه اللذان حلق بهما فى‬
‫الفاق‪ ،‬وفتح البلد ؟ إنهما العدالة والشورى‪ .‬ترك الجهاد السياسي السلمي هو‬
‫الذي قص الجناحين‪.‬‬

‫الفهرس‬
‫المقالة‪...........................................................‬رقم الفقرة‬

‫)الرهبانية الجديد‪1=3(...........................................‬‬
‫)لماذا اعتبر السلم الصلح السياسي السلمي جهادا ؟‪2=7(..‬‬
‫)جهاد السلم ضد الطغيان وجهاد الحسام ضد العدوان‪3= 10(....‬‬
‫)كيف صار جهاد السلم بمنزلة جهاد الحسام(باسم رب الغلم!)‪4= 12(.:‬‬
‫)لماذا كان حامل الكلمة عديل حامل البندقية‪ :‬المحصول أول‪5= 16( ..‬‬
‫)السلطان الجائر له وجوه‪ :‬سياسيً واجتماعي وثقافيً وقضائي‪6= 20( ..‬‬
‫)النصيحة العلنية هي القاعدة والنصيحة السرية استثناء‪7=24(..‬‬
‫)الكلمة مشروع إصلحي‪8= 28(.............................‬‬
‫)سلم الصلح السياسي‪ :‬أفكار ونخبة ومواقف وتكتل شعبي‪9=33(..‬‬
‫نموذج الفقيه في العصر الموي مصلح سياسي كيف تحول إلى مؤلف =‪10‬‬
‫)متنسك‪36( ........................................................‬‬
‫)الليبراليون وغير الملتزمين طلئع السلم المدني والسياسي‪11= 41(...‬‬
‫الخلص لوجه ال في الجهاد المدني والسياسي ليس شرط صلح =‪12‬‬
‫‪85‬‬
‫)دنيوي بل شرط ثواب أخروي‪44(.....................................‬‬
‫)إنكار المنكر السياسي هل يحتاج إلى استئذان السلطان‪13= 48( .....‬‬
‫)التسامح فوق النصاف‪ :‬اللهم اغفر لقومي فإنهم ل يعلمون‪14= 51(..‬‬

‫‪86‬‬
87
88

Anda mungkin juga menyukai