23/3/1427هـ(21/4/2006م)
1
2
ISBN 9953-29-857-2
عي التينة ،شارع ساقية النير ،بناية الري هاتف 860138 - 785108 - 785107 )1-961( :فاكس)1-961( :
786230ص.ب - 5574-13 :بيوت -لبنان البيد اللكترون asp@asp.com.lb :الوقع على شبكة النترنت:
http://www.asp.com.lb
3
بسم ال ا لرحمن الر حيم
[]1
آية كريمة:
ويأمــرون بالمـــــــعروف
وينــــهون عن المنـــــكر،
وأولئــــك هم المفلــــحون"
وحديث شريف:
"خيــر الجهـــــــاد
4
كـلمـة عــــــــدل
[]2
شكر
أش كر الزملء من المر ين بالمعروف والناه ين عن المن كر ،فى مجال حقوق
الن سان ،والمجاهد ين بقول كل مة العدل أمام ال سلطان ،الذ ين زودو ني بملحظات هم
على هذا الكتيب وأخص بالذكر منهم الدكتور سلمان العودة الذي همش ما لديه من
ملحظات ،على مسودة الكتيب الولى سنة 1414هـ ( 1993م ).
][3
المقالة الولى
الرهبانية الجديدة
أ – السبب الكبر في ضعف المة:
ـي الرض ،وأنزل الكتاب ـة فــان ،وجعله خليفـ ـد ل الذي خلق النسـ الحمـ
والميزان ،ليقوم الناس بالقسـط ،وصـلى ال على نبينـا محمـد ،وعلى آله وصـحبه،
الذ ين أقاموا حضارة اليمان ،ال تي حل قت بجنا حي الحر ية ال سامية والعدالة ،وبه ما
نشروا السلم رحمة للعالمين ،في مشارق الرض ومغاربها.
وبعد فما ضعف المسلمون ،إل عندما وقعوا في محظورين:
الول :أن هم جزأوا الد ين فآمنوا ببعضـه وهـو العبادات (المحضـة) الروحيـة،
وتركوا بعضه الخر وهو العبادات (غير المحضة) المدنية فحرفوا الدين فوقعوا فى
5
داء المم من" المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضدين " ( الحجر . ) 91-90 :
الثا ني :ثم ضع فت في نفو سهم معا ني العبادات الروح ية المنش طة ،فلم ت عد
الصـلة تنهـى عـن فحشاء مدنيـة ،ول منكـر اجتماعـي أو سـياسي ،وتحولت إلى
عادات مثبطـة منومـة ،وكان الديـن مضمونا روحيا ومدنيا حضاريا حركيا شاملً،
فأمسى طقوس مناسك روحية فردية جزئية سلبية ،وتلك هي الرهبانية الجديدة.
وعندمـا جاء السـلم تمثله المسـلمون الولون ،وأدركوا أن اليمان شطران:
مناسـك روحيـة ومسـالك مدنيـة ،فكانوا نموذجا حضاريا فريدا ،كان الديـن منبـع
سيادتهم في الدن يا ،ودل يل سعادتهم في الخرى ،وأض حى حافزا للتفوق الحضاري
الذي به عمارة الدارين ،دار الدنيا ودار الخرة معا.
ب يد أن جو هر الد ين انط مر عبر المك نة والزم نة ،وأ فل كث ير من مضامي نه
الحضارية ،فباتت أشكالً معزولة ،ل تحقق عزة في الدنيا ،ول نجاة من الهلك في
الخرة ،وتلشـت قوة المـة ومنعتهـا ،وصـارت نهبا للطغيان الداخلي والعدوان
الخارجي.
وعبر تأويل نصوص الشريعة المحكمة ،برروا الظلم والجهل والتأخر ،والفقر
والذل والمرض ،وا ستغلهم الخادعون من طلب الحطام الدنيوي ،والمخدوعون من
أهل الزهد الرهباني السلبي ،لتبرير كل واقع فاسد ،وكل حادث مهين ،فبرروا كل
عدوان وطغيان .و صدق الر سول الكر يم« :أخوف ما أخاف على أمتـي :زلة عالم،
وجدال منافق بالقرآن ،والئمة المضلين».
][4
ب – البحث عن المخرج:
ولن تتحقق للمة عزة ول قوة ،إل بعرى الدين المتينة ،ول سبيل إلى ذلك إل
بتحريـك مـا ركـد مـن مياهـه ،وإشعال مـا خبـا مـن مصـابيحه ،ليعود الديـن توحيدا
صـحيحا ،نقيا مـن ظلمات الشرك الخفـي والجلي ،وفقها ملهما للنهوض والرقـي،
وينبوعا يغسل أدران أمراض العقول والنفوس والجساد ،وروحا يولد طاقات المة.
ول يتم ذلك إل بأمرين:
الول :فقه الدين شاملً ،باليمان به كله سواء أكان شعائر مناسك أم شرائط
معائش.
الثاني :ول يتم ذلك إل بتفعيل مفاهيم الدين الراكدة ،والتي بقيت مصطلحاتها
وحرفت مفاهمها لكي تستخدم في نشر قيم الخمول.
والخطوة الولى أن يبادر الفقهاء المثقفون مــن علماء الشريعــة خاصــة،
6
والعلماء والمثقفون من أهل الصلح عامة ،الذين يدركون دورهم الريادي الطليعي
إلى تصـحيح المفاهيـم المغلوطـة ،وتحريـك المياه الراكدة ،ونصـب القدوة الحسـنة،
ووا جب على كل مث قف أن يدلي بعمله وقوله ،ووا جب على من ي جد في قوله أو
عمله نقصا أو خطأً أن يقوم ويسدد .وبهذا وذاك نشق الطريق المسدود ونصل إلى
الهدف المنشود.
][5
ج – الصالحات المدنية مؤهل وراثة الرض
إن القيام بش طر الشريعة المد ني ،هو أ ساس بقاء المم والحضارات والدول،
وذلك جاء في القرآن الكر يم ر بط ورا ثة الرض بع مل ال صالحات في الرض ،أي
بإقا مة شرطي البيعة في السلم :العدل والشورى الملزمة ،من أجل بناء المدي نة
العادلة الشورية.
وكلمـا جاء الصـلح أو الفسـاد مرتبطا بالرض أو بوراثتهـا فإنمـا المقصـود
الصـلح المدنـي ،قال تعالى :وعـد ال الذيـن آمنوا منكـم وعملوا الصـالحات
ليستخلفنّهم في الرض وقال :ولقد كتبنا في الزّبور من بعد الذّكر أن الرض يرثها
صالحون .و من يش كل عل يه ف هم كتاب ال المقروء ،فليقرأ كتا به الكو ني،
عبادي ال
فيدرك أن أساس بقاء الحضارات هو القيم المدنية.
إن من يتأمل تاريخ المسلمين ،يدرك أن أهم سبب في انهيار المة ،هو غياب
أعراف المجتمـع المدنـي .ومـن هذا وذاك تعرف مقاصـد السـلم الكـبرى ووسـائل
تنفيذها ،في حفظ أمة ال أفرادا ومجتمعا ودولة.
و من يتأ مل تار يخ نهوض الفر نج ،يدرك أن أ هم سبب في تفوق هم ،هو قوة
ثلثية المجتمع المدني ،بأضلعها الثلثة:
الضلع الول ال ساس :منظو مة الق يم ،كالحر ية ال سامية والعدالة والشورى،
والكرامة والمساواة ،والتعددية والجدية والروح العملية إلخ .و
الضلع الثا ني :التجمعات الهل ية الم ستقلة عن الدولة ،من نقابات وجمعيات
وروا بط ،ب صفتها تج سيدا ل سلطة ال مة باعتبار ال مة هي (الحا كم الفعلي) ،و هو
الدرى بمصـالحها ،وهـي وليـة أمـر نفسـها ( .انظـر لتفصـيل ذلك كتيـب ( ثلثيـة
المجتمع المدني ).
الضلع الثالث :توزيع عبء الدولة على ثلثة أعمدة بدل من عمود واحد ،من
خلل الفصل بين السلطات وقيام مجلس النواب بمحاسبة ومراقبة الحكومة ،وتعزيز
استقلل القضاء بذلك تتجسد سلطة المة على الحاكم ،التي قررها ال فى القرآن،
و عبر عن ها المام إ بن تيم ية بعبار ته الشهيرة " ال مة هي المخولة بح فظ الشرع،
7
وليس الحاكم( ،انظر تفصيل ذلك فى كتيب (البرهان فى قوامة المة وسيادتها على
السلطان) .
][6
د -أولوية نشر ثقافة المجتمع المدني:
إن المـة السـلمية ولسـيما الشعـب العربـي ل تعانـي اليوم مـن مجرد حكـم
جـبري كسـروي صـحراوي جائر ،يقدمـه الفقهاء الغافلون على أنـه السـلم ،أو أن
السلم يتآلف معه .بل إن المر أعظم وأخطر ،فهي تعاني من أزمة حضارية ،في
كافة أقطارها ومن التبسيط والتشويه ،أن تحدد الزمة بالحكم الجائر وإن كان الحكم
الصحراوي الجائر أبرز مضاعفات المرض ،فالمة تعاني من أزمة حضارية ،أدت
إلى النهيار الداخلي وإلى هيمنة الجانب على شؤونها ،وهذه الزمة تمتد جذورها
إلى خلل حدث منـذ بضعـة عشـر قرنا ،فـي التربيـة الجتماعيـة ،ومنهاج التعليـم
وأهدا فه وو سائله ،و في جا نب الترب ية ال سياسية ،والح كم الجائر أ حد مظا هر هذه
الزمة.
إن الزمـة التـي أسـقطت القنعـة الزائفـة ،وعرت التماثيـل الفارغـة منـذ عام
1411هـ ( 1990م ) إنما هي إعلن عن إخفاق منهج التربية الجتماعية ،وعندما
ركدت مناهـج التعليـم عامـة والدينـي خاصـة ،فانحصـر العلم فـي كثرة المؤلفات
وتحصيل المعلومات وانفصل عن العمل.
ومـن أجـل الخروج مـن هذه الزمـة ل بدّ مـن تجديـد مفاهيـم التعليـم عامـة
والديني خاصة ،من أجل ذلك ينبغي ربط كشف ما طمست الصياغة العباسية للثقافة
ال سلمية من ق يم المدن ية .إن ال مة ل تعا ني من ن قص ك مي في برا مج الترب ية
والتعليم ،وإنما تعاني من فقر في الفكار والمفاهيم.
وأول هذه المفاهيـم ثلثيـة المجتمـع المدنـي مـن أجـل ذلك ل ب ّد للمهتميـن
بالدعوة والصلح ،من نشر ثقافة المجتمع المدني.
وأسـأل ال أن يوفـق الجميـع إلى الصـواب ،وأن يجنبنـا الزبـد والخطـل ،فـي
الف كر والقول والع مل ،وأن ين فع بهذا الكت يب وأن يجعله هذا الع مل خال صا لوج هه
الكريم وأن يقبله بفضله وإحسانه.
8
][7
المقالة الثانية
لماذا اعتبر السلم الصلح
السياسي السلمي
جهادا ؟
أ – غفلة المنتسبين للشريعة عن جانبها المدني:
مـن يتأمـل النصـوص الشرعيـة ،يدرك أن الشريعـة السـلمية ،ل يمكـن أن
توصل الناس إلى سعادة الدنيا والخرة معا ،آفرادا وجماعات ومجتمعاتبها إل على
محورين:
المحور الرو حي :شعائر المنا سك كإقا مة ال صلة وال صوم وال حج .والمحور
المدنـي :إقامـة الدولة الشوريـة العادلة ،ومـا فيهـا مـن معائش ومسـاكن ومراكـب،
ونحوها من ما يحقق (الرقي المدني).
إن فريضـة المـر بالمعروف ليـس مقصـورة على شعائر المناسـك ،كإشادة
القباب على القبور ،وترك ال صلة وال صوم .ل يس من ال سنة أن يح صر المحت سب
جهده في إنكار المنكرات في التوحيد والمناسك ،ويتشدد في ذلك حتى يغلو ويتنطع
ــ ل سـيما ــ وهـي حقوق ل مبناهـا على الظاهـر ،وعلى السـتر ودرء العقوبـة
بالشبهة ،وعلى العفو من ال والمغفرة ،وال ل يعاقب عليها إل بعد إقامة الحجة،
كما صرح القرآن فى قوله تعالى :وما كنا معذبين حتى نبعث رسولً ،وهي من ما
ل تترتب عليه عقوبة دنيوية ،وهي من ما ل تختل به حياة المة والدولة.
و في مقا بل هذا التشدد ت ساهل شن يع فظ يع ،في إقا مة ش طر الشري عة الد ين
المدنـي ،الذي بـه تحرس العدالة الجتماعيـة ،ول قوام للمـة دون عدل ومسـاواة
وحر ية سامية وكرا مة ،وأخلق قوة اجتماع ية ومعرف ية وعمل ية .ول عدالة من
دون شورى ،ول شورى مـن دون تجمعات أهليـة ،ول تجمعات مـن دون حريات
مدنية.
إن من ض عف الفقه أن تجد عا مة المتدين ين والمتخ صصين بعلوم الشري عة،
يقومون بفصـل فظيـع بيـن ركنـي الشريعـة الروحـي الخاص والمدنـي العام ،فقـد
9
يقيمون الدن يا ويقعدون ها ،من أ جل موضوع غ يبي اجتهادي ،لي ست المعر كة ف يه
بيـن حـق وباطـل ،إنمـا هـي بيـن راجـح ومرجوح ،كصـراعهم فـي مسـألة القرآن
مخلوق أم غيـر مخلوق ،ويتركون شطـر الشريعـة المدنـي ،وكأنـه خارج إطار
الشريعـة ،وهـم بذلك يمارسـون علمانيـة مقنعـة ،بـل إنهـم علمانيون أكثـر مـن
العلمانيين أنفسهم.
فتلعـب السـلطان بأموال المـة ،وإنفاقهـا على الشهوات والمحاسـيب ،أمـر
يؤدي إلى انهيار القتصـاد ،وتحول المـة مـن أمـة غنيـة ،إلى فقيرة مسـتجدية،
تفرض علي ها الدول ما تفرض ،وذلك أ مر يؤدي إلى الف قر ،وكاد الف قر يكون كفرا،
وحفظ مال المة أحد فروض الدين العامة.
وال ستبداد بالدارة والقيادة ،و ما ف يه من رشوة ومح سوبية ،وتول ية غ ير
الكفياء ،أمــر يؤدي إلى الفســاد الداري يؤدي إلى انهيار الدولة بالفوضــى
والشقاق ،وصـلح الدارة أحـد فروض الديـن العامـة ،ول صـلح للقضاء إل
با ستقلله التام عن ال سلطة التنفيذ ية ،وبإعداد ثقا فة قضائ ية ،تم كن القضاة من
حلول المشكلت .فصلح القضاء أحد فروض الدين العامة.
وشيوع منهاج التربيـة الرخوة المتخلفـة أو العلمانيـة ،فـي مجال التعليـم
والعلم ،ليـس أقـل ضررا مـن مـا قبله ،وفيـه ضياع العقول والعراض ،فصـلح
التربية والتعليم خاصة والتربية الجتماعية عامة ،أحد فروض الدين العامة.
][8
ب – لماذا ركز الرسول الجهاد على الشق المدني
السياسي؟
ومن أجل ذلك جاءت كلمة الجهاد مركزة على شطر الشريعة المدني .وواضح
من الحاديث الشريفة هذا التركيز ،ومن الدلة على ذلك :أن النبي صلى ال عليه
و سلم فى حديث الجهاد المدني " خير الجهاد كلمة حق ع ند سلطان جائر " ( رواه
أبو داوود والترمذي وابن ماجة والنسائي وأحمد وصححه اللباني ) وصف النبي
المام بالجور الذي يجب جهاده ،والجائر يقابل العادل ،وهما صفتان مدنيتان.
ول جرم أن لكل عامل صفة بارزة ،فالصفة البارزة في إمام المسجد هي فقه
الصـلة والورع ،والصـفة البارزة فـي سـائق السـيارة ،هـي مهارة القيادة وحدة
البصر.
والصفة البارزة في الحاكم هي العدالة أو الجور ،فلم يصفه النبي بالفسق ول
10
بالفجور ول بترك ال صلة أو ال صيام ونحو ها من شعائر الد ين الروح ية بل و صفه
بالجور ،وهذا يشيـر إلى أن الحاكـم مهمـا صـام وصـلّى ،وبنـى المسـاجد ،وطبـع
المصاحف ،ل ينبغي أن تشفع له هذه المور إن تهاون في وظيفته الساسية :وهي
إقامة فريضتي العدالة والشورى.
ولذلك جاء وصـف الكلمـة فـي بعـض الروايات (بالعدل) ،والعدل فـي هذه
الروا ية ،يخ صص ما ورد في الروايات الخرى (بكل مة حق) أو (كل مة خ ير) ،لن
الحاكـم فـي غالب المور لن يقتـل مـن أمره بالصـلة أو بالعفـة ونحوهـا ،لن غالب
الحكام يتظاهرون أمام الناس بكافـة محاسـن الخلق ،ويسـتطيعون أن يخفوا كـل
الموبقات المدنية من زنا وشرب خمور والروحية من ترك صيام وسلم ،إل مسألتي
العدالة والشورى ،ولنهما ليستا مسألة شخصية ،يغلق عليها النسان داره ،بل هي
في كل شارع وحي ومدينة.
][9
ج – الغفلة عن مقاصد الشريعة أفظع البدع:
و ما أ صيبت ال مة في كيان ها ،إل عند ما أوّلت الن صوص الدين ية ال صريحة،
واعتمدت على غير الصريحة ،ونشرت الحاديث الموضوعة والضعيفة التي تنامى
نباتها فى ظلل كهوف الحكم الصحراوي الكسروي وتركت النصوص القطعية ،فعم
الجهل بشطر العقيدة المدني :إقامة الدولة العادلة الشورية.
ف سكت الناس عن ال مر بالعدالة والن هي عن الظلم وال ستبداد ،وأخذوا من
الديـن مـا يوافـق أهواءهـم ويجنبهـم مشقـة الصـبر ،وظنوا أن المـر بالعدالة
والشورى من فروع الملة ،بل أسقطوا مسألة المامة كلها من العقيدة واعتبروها
من فروع الدين ،ونسوا أنه عمود شق الشريعة الثاني ،فمن تركه فقد أخلّ بالركن
الول :تحقيـق التوحيـد والقيام بالصـلة ونحوه ،وشجرة الشريعـة أصـلها التوحيـد
وهي ذات فرعين روحي ومدني ،فمن أخلّ بشطر ،فقد أخلّ بالخر.
وال سلم ع قد منظوم ،ل يؤ خذ م نه جا نب دون جا نب ،إل في حالة الدعوة
المتدرجـة إليـه ،أمـا السـتمرار على ذلك فهـو جهـل بالشريعـة ،يؤدي إلى شيوع
الفسـاد وخراب البلد ،كمـا قال المام الشاطـبي ،مؤكدا على أن ترك ضـم أطراف
الشريعـة إلى بعـض ،هـو أسـباب الوقوع فـي الزيـغ والغلط "ومدار الغلط فـي هذا
الفصل إنما هو على حرف واحد ،وهو الجهل بمقاصد الشرع ،وعدم ضم أطرافه
بعضها ببعض".
"فإن مأ خذ الدلة ع ند الئ مة الرا سخين ،إن ما هو على أن تؤ خذ الشري عة
كال صورة الواحدة ،بح سب ما تث بت به كليات ها وأجزاؤ ها المترت بة علي ها ،وعام ها
11
المتر تب على خا صها ،ومطلق ها المحمول على مقيد ها ،ومجمل ها المف سر بمبين ها،
إلى ما سوى ذلك من مناحيها".
"وما مثلها إل مثل النسان الصحيح السوي ،فكما أن النسان ل يكون إنسانا؛
باليد وحدها ،ول بالرجل وحدها ،ول بالرأس وحده ،ول باللسان وحده ،بل بجملته
ال تي سمي بها إن سانا ،وكذلك الشري عة ل يطلب منها الحا كم على حقي قة الستنباط
إل بجملت ها ،من أي دل يل كان ،وإن ظ هر لبادئ الرأي ن طق ذلك الدل يل ،فإن ما هو
توهمي ل حقيقي".
فشأن الرا سخين في العلم ،ت صور الشري عة صورة واحدة ،يخدم بعض ها بعضا،
كأعضاء الن سان إذا صورت صورة متحدة .وشأن متتب عي المتشابهات أ خذ دل يل ما،
أي دليـل كان عفوا أو أخذا أوليـا ،وإن كان ثـم مـا يعارضـه مـن كلي أو جزئي فكان
العضو الواحد ل يعطي في مفهوم أحكام الشريعة حكما قطعيا ،فمتتبعه متب ُع متشابه،
ول يتبعه إل من قلبه زيغ ،كما شهد به ال ،ومن أصدق من ال حديثًا( النساء)87 :
(العتصام.)312/1 :
جاهل بالدين بل مبتدع بدعة كبرى؛ من قصر جهده على العناية بقيم السلم
الروحيـة الخاصـة :المناسـك ،وترك قيـم السـلم العامـة المدنيـة :شرائط المعاش
الدارة التـي أسـاسها أمران :العدالة الجتماعيـة ،والشورى فـى البيـت والمدرسـة
والديوان.
ل قد أ خذ بجا نب من الد ين وترك ال خر .فليحذر المؤ من من أن ي قع في
الضلل وهـو ل يدري ،فيكون مـن الذيـن يضلون الناس بغيـر علم ،وإن كانوا مـن
الز هد والخلص بمكان مك ين ،وإن كانوا من العلم والح فظ من المكثر ين فال قد
حذرنـا بأن المـم السـابقة ،لم تهلك بسـبب الجهـل فحسـب ،بـل إن علم الشقشقـة
والثرثرة والرهبنة ،من أسباب الضلل " فما اختلفوا إل من بعد ما جاءهم العلم ".
وقد بين الرسول صلى ال عليه وسلم أن الضلل نوعين وحذر منهما معا :ضلل
روحي وضلل مدني.
وحذر من الول:الروحي في ما رواه أبو هريرة " لتتبعن سنن من كان قبلكم
شبرا بشبر وذراعأ بذراع " فساله الصحابة :يا رسول ال اليهود والنصارى ،قال
:فمن " ( رواه مسلم ) .
وحذر من الثاني المدني :فى ما رواه أبو سعيد الخدري " لتتبعن سنن من
كان قبل كم ،شبرا ب شبر وذرا عا بذراع " ف ساله ال صحابة :فارس والروم ؟ قال :
ف من ؟ " ( رواه البخاري ) ،قال ا بن ح جر " ح يث قال " فارس والروم " كان هناك
قرينة تتعلق بالحكم بين الناس وسياسة الرعية ،وحيث قال اليهود والنصارى كان
هناك قرينة تتعلق بأمور الديانات ؛ أصولها وفروعها "
وهذا الحديث من السس التي بنيت عليها ثنائية الروحي والمدني (فى بحث
12
نحو صياغة للعقيدة تصد عنا تحديات العلمنة والفرنجة والعولمة والهيمنة الجنبية
من كتاب:جناحان حلق بهما السلم).
ل عن أن ي سعى أو يحلق في لن لل سلم قدم ين لن يم شي على الرض فض ً
الفاق إذا شل أحدهما ،ويعرج إذا مرض أحده ما ،فلنتذكّر وع يد ال الذين حصروا
الديـن فـي جانـب ،وتركوا مـا عداه أفتؤمنون ببعـض الكتاب وتكفرون ببعـض فمـا
جزاء من يف عل ذلك من كم إل خزي في الحياة الدن يا ويوم القيا مة يردون إلى أ شد
تعملون [البقرة.]85 :
العذاب وما ال بغافل عما
أجـل إنـه خزي فـي الحياة الدنيـا قبـل الخرة ،أصـاب أمتنـا السـلمية عامـة
والعرب ية خا صة :جبر وخوف جور ومرض وج هل وف قر وتفرق وذل .وذلك جزاء
مـن أخلّ بشطـر الشريعـة المدنـي جانـب العدالة والشورى ،فمـن همشـه فـي فتاواه
ومؤلفاته فقد أخلّ بثاني اثنين من أصول الدين ،إنه الخزي الفظيع.
13
][10
المقالة الثالثة
17
][12
المقالة الرابعة
كيف نال جهاد السلم مرتبة جهاد
الحسام
(باسم رب الغلم!):
أ – نموذج البطل الشهيد في ثقافتنا:
لقـد قرر ال سلم فضـل جهاد الكل مة على جهاد الر صاصة ،فلم يقـل الر سول
الكر يم :إن سيد الشهداء ،هو الفدائي الذي غا مر بنف سه ،وتخ طى حوا جز الخوف،
ح تى ق تل الطاغ ية .على أن هذا النموذج هو الذي يتبادر إلى الذ هن ،ع ند الحد يث
عـن البطولة والشجاعـة ،فنموذج البطـل الشهيـد – فـي ثقافتنـا السـائدة – هـو مـن
يتأبط رشاشه ،ثم يفرغ الرصاص في جمجمة الطاغية الجبار ،وهو في هذه الحالة
مقتول ل محالة.
وهذه الصـورة ألصـق بالمفهوم التقليدي للبطولة والفتوة ،وأخلد فـي أذهان
الناس ،ولذلك فإن خالد السـلمبولي ،ظـل فـي ذاكرة الملييـن ،نموذجا للبسـالة
والشجاعة ،والجرأة والفروسية.
ول كن حك مة الشري عة لي ست بالرأي العابر ،الذي ين ظر إلى مفهوم الشجا عة،
مرتبطا بالجلبـة والثارة ،بـل هـي مرتبطـة بالنتائج البعيدة المدى ،فهـي تؤكـد مـا
عرفته المم بالخبرة ،من أهمية بناء حسن التفكير وحسن التدبير ،باعتبار هاتين
الصـفتين مـن نسـيج اليمان .ولذلك جاء – فـي الحديـث الشريـف – أن الشديـد
(الشجاع) ،هو الذي يملك نفسه عند الغضب .وجاء في الحديث أن خير المجاهدين
من يقول كل مة العدل في مواج هة الطاغ ية ،وأن خ ير الشهداء هو من يعلن كل مة
عدل ثم يجندله الطاغية.
إذن ليس الشهيد محصورا بالذي يصارع صراعا ماديا دمويا في الميدان ،بل
إ نه له نماذج أخرى يأ تي فى طليعت ها الفدائي ال سلمي ،الذي الجبار الجائر ي صارع
صراعا معنويا رمزيا ،الذي يحمل سلح الموقف المعبر عن الكلمة .هذا كما صرح
الحد يث ،له أر فع الدرجات في ( سلم الشهادة) .الحد يث يقول :خ ير المجاهد ين هم
الذيـن يعرضون أنفسـهم لذى الفرعون ،بقولة الحـق أمامـه .الحديـث فـى الجهاد
العسـكري يقول " ل تتمنوا لقاء العدو ،فإذا لقيتموهـم فاصـبروا " ولكنـه فـى الجهاد
18
العسـكري يقول " إذا قدرتـم النتائج ،فاسـتدرجوا الطاغيـة الي قتلكـم .هذه هـي
الرسالة التي يوصلها :حديث باسم ال رب الغلم.
][13
ب – نتائج جهاد الكلم أبقى من الحسام:
وقد يتعجب كثير من الناس ،كيف تكون كلمة عزلء ساكنة ،أعلى منزلة من
رصـاصة شهباء مدويـة ،ولكـن العجـب يتبدد عندمـا يقرنون السـباب بالنتائج،
والوسائل بالغايات ،ومن يتابع الحركة الخفية للتاريخ ،ويتأمل أثر الكلمات في إنتاج
المواقـف ،وأثـر المواقـف فـي خلود الكلمات يدرك السـبب ،وإذا أدرك السـبب بطـل
الع جب .مئات الشخ صيات المجاهدة هدت بكلمات ها طغيان الت جبر والق هر ،ح تى خرّ
الباطل أمام قوة الحق.
فلتذ كر كلمات ال سلف ال صحابي الم صلح أمام الجبار الجائر ،ع بد الرح من بن
أ بي ب كر وع بد ال بن الزب ير والح سين بن علي وعبدال بن ع مر وع بد ال بن
عمرو بن العاص وكلمات ومواقف السلف السياسي المصلح سعيد بن جبير وسعيد
بن المسيب ،والحسن البصري وأحمد بن حنبل ،وابن تيمية وابن القيّم والعز بن
ع بد ال سلم وكلمات وموا قف ال سلف فى ع صور الهيم نة الفرنج ية :جمال الد ين
الفغاني وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده وحسن البنا وسيد قطب ومحمد باقر
الصدر وعبد العزيز البدري وغيرهم.
لقـد هاجـم الطاغيـة الكلمـة وأصـحابها ،كمـا يهاجـم وحشا كاسـرا ،أو جيشا
غازيا ،ل ما ل ها من قوة ،ولذلك اعترف أك ثر من طاغ ية ،بأ نه ل ي حس بتفرده في
الحكـم ،مـا دام المصـلح الفلنـي موجودا ،ولذلك برر أحـد السـلطين قتله أحـد
المصلحين فقال ما معناه «كيف ل أقتله وهو بمجرد قول ينقض كل ما أحكمت من
فتل».
لن كل مة ال حق المكتو بة بالدم ،لي ست ن صا مخطوطا بماء الذ هب في مكت بة
التراث ،إنما هي روح شفافة يمنحها الصبر والجهاد والستشهاد ،هيئة طير محلق
في السماوات ،فتكتسي أجنحة وريشا ،وتحلق في العالي فوق الوهاد ،فتحدق إليها
العيون ،وتخفق لها القلوب ،فتكون القدوة الحسنة .وبذلك يصبح الضعيف العزل،
ذلك المر مي ب ين أر جل بول يس ال سلطان ،بطلً شا كي ال سلح ،ير سم بد مه و صبره
طر يق خلص ال مة ،وي ضع لف تة ك تب علي ها :هذا طر يق الحياة ،ويكون مِن مَن
يعبّدون هذا الطر يق ،ل بالدبا بة المجنزرة الم صفّحة ،ول بالمد فع الذي يدك المدن،
بل بالكلمة الهادئة المجنحة بالموقف الثابت.
19
][14
ج – الطاغية ينهزم في الجولة الولى والثانية معاً:
لن كلمة العدل ،وإن بدت لطيفة تقوم بدورين :الول تعرية الوضاع الفاسدة
فالطاغية يتظاهر بالتقوى والعدالة ،والكلمة الصابرة تقول له :القضاء فاسد والدليل
هـو كذا وكذا الدارة فاسـدة الدليـل هـو الرقام .أنـت تدعـى أنـك تحكـم بالسـلم ،
والسـلم والطغيان ل يجتمعان ،الطغيان مـن نواقـض السـلم ( انظـر تفصـيل هذه
الفكرة فى كت يب ( الطر يق الثالث :الد ستور ال سلمي منقذا من العلم نة والحجاج
معا).
الثاني :تعرية الطاغية أمام ضميره أيضا .تعري الفاسدين أمام ضمائرهم،
وأمام عيون الناس.
فينهزم الجائر أمام ضميره فـي الجولة الولى ،لن العدل والحـق ،مزروعان
في فطرة وع قل كل إن سان فِطرَة ال ال تي َفطَرَ النّاس علي ها والظالم مه ما الت مس
لنفسـه المعاذيـر ،يكتوي بتوتـر الوجدان ،ومهمـا ظهـر غالبا قوي المراس ،مغلوب
من الداخل ،كثير القلق والهواجس ،فعندما يشبع الطغيان غروره وتسلطه ،ويروى
النتقام عطشه إلى الدماء ،يستيقظ ضميره بعد المنام ،ويظل شبح الضحية يطارده،
كلما غفا صحا ،كما ظل شبح المصلح سعيد بن جبير ،يلحق الحجاج ،ح تى مات
مهزوما مفلسـا ،كمـا ظـل شبـح طغيان ( نيرون ) يلحقـه ،حتـى أفضـى بـه إلى
الجنون.
وسيهزم الجائر أمام الناس في الجولة الثانية ،إذ ستظل قضية الثأر تلحقه،
ك ما ظلت أشباح شهداء الخوان الم سلمين ومعذبي هم ،تطارد فراع نة م صر ،فظلوا
يعانون الجراح الداخليـة ،يتعذبون آناء الليـل وآناء النهار ،ويموتون هلعا وخوفا،
في صور مأ ساوية أق سى من الق تل المبا شر ،ويترقبون أن يشووا في التنور الذي
أوقدوه عشية أو ضحاها .ولعذاب الخرة أشد وأبقى .
][15
د – طلئع مجاهدي السلم يشقون مجرى النهر:
إن النفوس جبلت على محاربـة الجـبر والجور ،والتطلع إلى الحريـة والعدل
فإذا وجدت ال مة فوار سها وأبطال ها صرعى وقتلى ،ووجدت م صلحيها في غيابات
ال سجون وأقب ية التعذ يب والتقت يل ،انب ثق في ها رأي عام ،هادئ وثائر ،ي سير على
خطاهـم ،فيثأر لهـم ،وسـرعان مـا يشرب الجلد والجزار ،مـن الكأس نفسـها التـي
20
سقاها الضحايا.
وبذلك خسر الجائر حياته وأمنه ،وخسر مجد الدنيا ،وخسر مجد الخرة.
ل قد كا نت هذه الكل مة العزلء م صيدة للطاغ ية ،ح ين ا ستهان ب ها ،و ظن أ نه
سيعيش محتم يا بح صونه الثل ثة :إعل مه وشرط ته ومحاك مه ر غم أ نف ال مة .لن
المصلح المجاهد الشهيد ذا العقل الواسع ،خدع الطاغية ذا العقل القاصر ،الطاغية ظن
أن الدنيـا آخـر المشوار ،فانشغـل بذاتـه ولذاتـه ،وكره لقاء خالقـه ورازقـه ،فظـن أن
المجاهديـن المدنييـن مثله؛ مـن طلب المال والجاه والشهرة والحياة الفانيـة ،فعاقبهـم
وفق مقياسه.
ولكـن المجاهديـن رحبوا بهذا العقاب ،لنهـم أدركوا أن موتهـم حياة لمتـه،
صـبرهم على ،وكآبتهـم تتنـج للمـة مشاهـد مـن الفراح والعياد ،ولكـن الطغاة ل
يعلمون:
يقضـى على المرء فـي سـاعات محنتــه× حتـى يرى حسـنـا مــا ليـس
بالحسـن
قـد سـلك المجاهـد أسـلوب الغلم مـع الملك الجائر المتفرعـن( ،كمـا ورد فـي
الحديث الذي رواه مسلم والترمذي والطبري) ،لقد تعلم الغلم السلم من الراهب،
بد ًل من أن يتعلم ال سحر من ال ساحر ك ما ر غب الطاغ ية ،فل ما علم الملك بذلك أراد
قتـل الغلم ،وجرّب وحاول ،ضربـه بالسـيف فلم يمـت ،رماه بالسـهم فلم ينصـرع،
وأراد إغراقه فنجا ،فعند ذلك حار الملك.
قال له الغلم؛ إنك لن تقتلني إل بوسيلة واحدة
فقال السلطان :ما هيه؟
فقال :أن تجمع الناس في محفل ،ثم تتناول قوسك ،ثم ترميني قائلً :باسم ال
رب الغلم.
الملك طبـق مـا قال الغلم ،عندهـا تهادى جسـد الغلم ،وحلقـت روحـه فوق
رؤوس الناس ،فآمن الناس كلهم برب الغلم ،وأعلن السلطان بغبائه ،ريادة الشهيد
ومبادئه.
لول احتراق النـار مـا جـاورت× ما كان يعرف طيب عرف العـود
وهكذا يكون موت ج سد المجاهد ين ،حياة لقلوب ال مة ،ويكون دم هم المراق
نورا تدرك ال مة به الما مة والغل بة ،ك ما قال ال تعالى :وجعل نا من هم أئ مة يهدون
بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون[ السجدة.]24 :
21
][16
المقالة الخامسة
حامل الكلمة لماذا كان
22
إنما هو الجهاد الصغر.
ومن أجل ذلك نجح الصحابة فى العهد الراشدي ،لنهم وازنوا بين الجهادين
الداخلي والخارجـي ،فاسـتمر المجتمـع قويا ،والخلفـة راشدة قائمـة ،فوصـل
الم سلمون إلى مشارق الرض ومغارب ها ،في إيران وال سند واله ند ،و في أفريق ية
والندلس .ثم اخ تل التوازن ،فظ هر الجهاد الخار جي الحر بي،ول كن الجهاد الداخلي
تضاءل وضمر ،فسقط الحكم الشوري العادل ،وبدأ البنيان ينهار من الداخل.
ولم ير كث ير من الناس بدا ية النهيار ،لن العر بة ظلت منطل قة ،ب سبب قوة
الد فع الولى ال تي أشعل ها الج يل الول في الع هد الراشدي ،ل قد ظلت آلت المحرك
تدور ،عبر القرون المفضلة ،ولم يدرك الم سلمون أن قوة الد فع توقفت م نذ قرون،
وأن الحكم الجبري الجائر وإن حقق انتصارات فى الفتوح ،إنما يعمل بأثر قوة دفع
العربة وشحنها .وليست الفتوح من إنتاجه .إنما هي ثمرات أشجار الزيتون ،التي
غرسها الصحابة السابقون ،لم يدرك عديد من الناس أن أصل دائهم وسبب محنهم،
إنما هو الحكم العضوض .وأنه لن يستطيع دفع العربة من جديد ،فترك الناس الملك
العضوض يعض هم بأنيا به ،ويب طش ب هم بأظفاره ،ما دام يجا هد فى الخارج ح تى
ا ستعبدهم وق تل في هم الحر ية والشها مة والكرا مة ،وا ستبد بالدولة والدارة ،و سلب
الموال وألهب الظهور بالسياط.
ثم تهاوى وسقط من الداخل ،كأي إنسان يعب من الخمر حتى يترنح ل يدري
بنفسه ،ع ند ذلك أ صبحت المة لقمة مطبو خة ناض جة ،جاهزة لل سقوط في أول يد
تتناولها ،وأول فم يكشر أنيابه ،وعندما جاء العدوان الخارجي ،لم يجد مقاومة ول
منازلة ،لن أ سس بنيان الدولة قد انهار م نذ القرن الهجري الرا بع ،و من أ جل ذلك
سـقط المسـلمون بيـن براثـن التتار ،وسـقطوا أمام الزحـف الصـليبي ،وهـا هـم
يتساقطون كالتين في أفواه حيتان المحيط الطلسي.
أجـل إن الجهاد الداخلي فريضـة شرعيـة عظمـى ،عرفهـا السـابقون فنجحوا،
ونسيها المتأخرون فأخفقوا ،فهل يصلح آخر هذه المة ،إل بما صلح به أولها؟
][17
ب – الفرق بين درجة المر بالمعروف ودرجة
الجهاد:
كلمة الخير والحق والعدل ،لها حالتان:
الولى :أن تكون بيـن يدي سـلطان عادل ،يسـتمع إلى كلمـة النصـح والرأي،
ويعدهـا جزءا مـن البيعـة الشرعيـة ،ويدرك أن البيعـة الشرعيـة ،إنمـا هـي تعاقـد
اجتماعي ،بين المة ومن اختارته ،وكيلً عنها في إدارتها ،ونائبا عنها في القيام
23
بشؤونها ،وتنفيذ رأيها في تحقيق مصالحها ،وعليها أن تطيعه أفرادا وجماعات ،ما
دام يح سن ال سيرة المبن ية على الطا عة بالمعروف ،مقيما فريض تي العدل والشورى
الملزمة سواء وجد الخذ بالنصيحة مناسبا بها أو تركها ،والكلمة في هذه الحالة،
ليسـت جهادا ،لن عنصـر المشقـة والمخاطرة والمغامرة مفقود ،وإنمـا هـي فـي
المرتبة الثانية مرتبة ،فإن كلمة الحق والعدل والخير فهي أمر بالمعروف ونهي عن
المنكر ،فل معروف أعلى من العدل ،ول منكر أشفع من الظلم ،كما قال المام محمد
عبده.
الحالة الثانيـة :أن تكون بيـن يدي سـلطان جائر ،يخاف شره ،وهـي فـي هذه
الصورة مغامرة ومخاطرة ،قد يدفع ثمنها الناصح غاليا ،فهو معرّض لقطع رزقه،
أو مصادرة ماله ،أو التضييق عليه واضطهاده ،أو عزله عن وظيفته ،أو سجنه أو
قتله ،وفي هذه الحالة تصبح الكلمة جهادا ،أي في المرتبة الولى بل إنها تصل إلى
درجة المتياز وتصبح من أفضل الجهاد ،ويكون قائلها ،إن قتل ،شهيدا من الطراز
الول.
][18
ج – الفرق بين سطح المسرح وكواليسه:
هناك ت ساؤل آ خر ،لم بلغ صاحب الكل مة ال صابرة منزلة صاحب المد فع في
مسألة الجهد المبذول؟ لن شرطي الجهاد هو مستوى الجهد ،ووظيفته؟ هل الجهاد
السلمي يوازي في المشقة جهاد الحرب ،أم أنه أشق؟
ولكل غالية مهرها ،فالكلمة الشجاعة قد تعرّض صاحبها للمخاطر والمهالك،
أكثـر مـن الحرب .لماذا؟ لن المجاهـد فـي الميدان ضـد العدوان ،يجالد فـي معركـة
جليــة ،الســلح فيهــا يكاد يكون متكافئا ،والعدد يكاد يكون متقاربا .والمجاهــد
الع سكري ب ين احتمال ين :ن صر وعزة في الدن يا ،أو شهادة سريعة ،لن يذوق في ها
الموت أكثـر مـن مرة واحدة ،وألم السـتشهاد فـى الحرب – كمـا ورد فـي الحديـث
الشريف – كقرصة إحدى القوارض".
أ ما مجا هد الكل مة ،ف هو فرد أعزل ،أمام سلطة ذات بأس شد يد ،كالع صفور
الجريح بين يدي قط جائع،وكالحمل الوديع أمام نمر كاسر ،واحتمال هلكه أكثر من
سلمته.
والمجاهـد فـي المعركـة ،يجاهـد فـي ميدان مكشوف وأهداف الحرب معلنـة،
وو سائلها متكافئة ،فإن سلم عاش بطلً مجيدا ،وإن مات ق ضى حميدا شهيدا ،و هو
في كل الحال ين ،محمود الذ كر وال سيرة ،يعزز أهله وذووه ،على أن هم أ سرة الب طل
والشهيـد ،ويرفعون هاماتهـم على الناس ،بمـا بنـى لهـم بطلهـم مـن شرف الدنيـا
والخرة ،فـي الدنيـا بمـا خلف لسـرته وإقليمـه مـن حسـن ذكرهـم ،وفـي الخرة
24
بشفاعته لهم وما وهبهم من الجر.
أما المجاهد المدني ،فهو يجاهد في معركة خفية مبهمة عند الناس ،ول سيما
فـي زمـن موت السـنة وحياة البدع ،ولذلك يتعرض حيا وميتا ،للتشويـه والتجريـم،
فهو عند السلطة مرتكبٌ خيانة ،ومجرمٌ سياسي خطير.
][19
د – السلطان الطاغية وأسلحة السحق الثلثة:
ولل سلطة الطاغ ية فقهاء خادعون ومخدوعون ،وإعلم يز يف الحقائق ،يج عل
سمعة المجا هد المد ني فى الحض يض ،ويجر مه دنيويا وأخرويا .فال سلطة الطاغ ية
ـس ،وإرهاب ـة :إرهاب البوليــبر أجهزة الرهاب الثلثـ ـة ،عـ قديرة على الجريمـ
القضاء ،وإرهاب الترب ية ،فإن عاش المجا هد المد ني طليقا تعرض رز قه للم صادرة
والتضييـق ،وتعرضـت حياتـه للملحقـة والمطاردة ،وعاش ومعـه أهله وذووه ،فـي
عزلة وخوف وقلق ،وتعرض عرضه ودينه وعلمه للتشويه.
ولسـلطة الجور قضاة جور يعتـبرون المـر بالمعروف السـياسي والقضائي
والداري بد عة ،والحت ساب على ال سلطة فت نة ،وفري ضة الكل مة المجاهدة جري مة،
والموقـف السـلمي بغيـا وخروجا على المام ،ويمكـن قضاة الجور اعتبارهـا حرابـة
وإف سادا في الرض ،ويمكن هم اعتبار ها خيا نة عظ مى ،في ها إخلل بال من الم ستقر
وتفريق للجماعة المجتمعة ،كما قال أحد فقهاء السلطان الجائر "الخروج على المام
بالكلم كالخروج عل يه بالح سام" .لن الرأي والت عبير والجتماع والتج مع الشرع ية،
إنما هي عندهم فتن وبغي.
مـن أجـل ذلك تصـدر صـكوك الحرمان والتشويـه ،ويلعـن هذا المصـلح على
المنابر وفـي وسـائل العلم ،آناء الليـل وآناء النهار ،فيمزق عرض المصـلح،
وتلصـق بـه كـل صـفات الذم ،فهـو تارة فاسـق فاجـر ،وتارة منحرف مارق ،وتارة
أخرى مبتدع يدعو إلى بدعته ،وتارة أخرى عميل للستعمار ،وهو تارة أخرى كافر
مل حد ،و من يقرأ الت هم ال تي ر مي ب ها الم صلحون أمثال مح مد عبده وجمال الد ين
الفغاني ،يدرك طرفا من فنون التشويه.
فالحتسـاب فـي المور العاديـة ،يعرض النسـان للضنـى والسـى ،كمـا قال
أو يس القر ني( :إن ال مر بالمعروف والن هي عن المن كر ،لم يدع للمؤ من صديقا،
نأمرهـم بالمعروف ،فيشتمون أعراضنـا ،ويجدون على ذلك أعوانا مـن الفاسـقين،
ح تى وال ل قد رمو ني بالعظائم ،وأ يم ال ل أدع أن أقوم في هم بح قه) (العت صام:
.)139/1بله الحتساب في المور السياسية،
وإن دخل مجاهد الكلمة غيابة السجن ،فقد ل يخرج حتى يمر بفظائع الهانة
والتعذ يب ،ف قد يعا ني جل سات التحق يق شهورا ،ويعا ني ض نى المحاك مة والتجر يم
25
شهورا ،و قد يق ضي في ال سجن ب ضع سنين ،و هو مق يد في زنزا نة صغيرة ،تولد
أنواعا من الكتئاب قد تفضي به إلى النهيار العصبي.
وهـو مهدد دائما بمـا يسـيء إلى عرضـه وعقله ،فصـبره على الجهاد ليـس
ل عـن مـا يتعرض له مـن أمراض صـبر سـاعة ،إنمـا هـو صـبر طويـل طويـل ،فض ً
الجسـد ،كالقرحـة وضغـط الدم والشلل ،والسـكري وتسـاقط السـنان ونحوهـا مـن
أمراض التعذيب والسجون.
وقد يحقن بمواد مخدرة ،تجعله بعد خروجه مشرد الذهن يعاني من الدمان،
وقد يخرج وهو في عداد المجاذيب ،وقد يخرج فيجد بيته خرابا ،قد تعرض للتفكك
وألوان المؤذيات.
و قد يخرج في جد نف سه فقيرا مرميا في قار عة الطر يق ،و قد اعتزل أهله كل
أل يف ،وابت عد ع نه كل صديق ،ون فر م نه كل ودود .ف صار كالم صاب بمرض شد يد
العدوى ،كاليدز والجرب ،وهـو فـي ذلك يترقـب خلصـه على يدي جلده ،فـي أكلة
م سمومة ،أو غيلة مكتو مة ،وذلك خ ير له من ان يجد ها عبر توري طه فى جري مة،
تظهره أمام الناس ،فاسد العقيدة أو فاسد الخلق.
وإن ق تل شهيدا ،لم يق تل ب ين عش ية وضحا ها ،لن يق تل ح تى ي مر ب ما في
ال سجن مـن تعذيـب وكآ بة ،و قد ت مر سنون وهـو لم يحا كم ،ول يموت ح تى يمـر
بصنوف الذى والعذاب ،التي يمر بها السجين ،بينما مجاهد المعركة ل يجد من ألم
القتل إل نحوا من ألم قرصة الزنبور والنحلة ،كما ورد في الحديث الشريف.
ومجاهد الكلمة معرض على كل حال للفتنة ،أكثر من مجاهد السلح ،والنجاة
من الفت نة أ شق ،لن ف تن التعذ يب وال سجون ،قد ت سبب النهيار الع صبي والكآ بة،
وقـد ينقلب النسـان مـن صـف إلى صـف ،بقفزة واحدة ،مـن صـف المصـلحين إلى
صـف المداحيـن والمنافقيـن ،أو على القـل فـى صـف المحبطيـن اليائسـين الذيـن
يعممون تجربتهم الذاتية المحبطة على من حولهم .كما وقع للحسن البصري رحمنا
ال وإياه ،ولفقهاء كثيرين ،بعد إخفاق مسعاهم لصلح السلطان ،فى ثورات ابن
الش عث والح سين بن علي وثورة القراء .عند ما شاع ف قه ( الرجاء ) فى الع صر
الموي ،ورسـخ فقـه الضرورة فـى العصـر العباسـي ،تحـت عنوان ( الصـبر على
المام الجائر ) .ون سب ب عد ذلك إلى ال سنة والجما عة ،وأطلق عل يه بعد ها من هج
ال سلف ال صالح .والذي يتأ مل أحوال الناس .الذ ين دخلوا ال سجون ،ي جد أن ب عض
المصـلحين فتنوا فلم يسـتمروا ،نسـأل ال السـلمة والسـتقامة.ولذلك وصـف ال
عباده المخل صين بالحرص على ال ستعاذة من الفت نة ح ين يرددون رب نا ل تجعل نا
فتنة للذين كفروا أو ربّنا ل تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهو إذا ثبت وصبر جدير بهذا
الوسام.
والمجاهد المدني فرد قد يكون أعزل ،أمام قوة الدولة وجبروتها ،محبوسا في
26
جوف مثلث قمعهـا المحكـم الضلع :إرهاب البوليـس وإرهاب القضاء وتخديـر
الترب ية والتعل يم والعلم ،والمجا هد المد ني في أحيان كثيرة «ل ي جد أعوانا» ي شد
بهم ظهره ،ول يركن إليهم ،عندما يصبح الخوف في مدينة الصمت سيد الخلق.
" أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" لماذا كانت الكلمة أفضل الجهاد؟
قال الخطابـي(إنمـا صـار أفضـل الجهاد ،لن مـن جاهـد العدو ،كان مترددا بيـن
الرجاء والخوف ،ل يدري هل يغلب أو يغلب ،وصاحب السلطان مقهور في يده ،
فهـو إذا قال الحـق وأمـر بالمعروف ،فقـد تعرض للتلف ،وأهدف نفسـه للهلك ،
فصار ذلك من أفضل أنواع الجهاد ،من اجل غلبة الخوف ،كما قال الرسول الكريم
أيض ًا ( يـا أيهـا الناس مروا بالمعروف وانهوا عـن المنكـر قبـل إن تدعوا ال فل
يستجيب لكم ،وقيل ان تستغفروه فل يغفر لكم )"
مـن أجـل ذلك قال المام الغزالي "يجوز للمحتسـب بـل يسـتحب له ان يعرض
نفسه للضرب والقتل إذا كان لحسبته تأثير في رفع المنكر ،أو كسر جاه الفاسق ،
أو تقوية قلوب أهل الدين "[ هذا المقطع منقول من كتاب حقوق النسان للكاتب]
و ما رب طه الغزالي ب ين التأث ير والذى م سألة ضرور ية ،أي ان الن سان ل
ينبغـي ان يعرض نفسـه للذى ،إل إذا كان المنكـر كـبيرا يسـتحق التضحيـة ،بان
يكون النكار اثر بين حاضر ومستقبل.
قال أحد العلماء:إنما صارت لكلمة الحق عند السلطان الجائر هذه المنزلة ،
لن هذه الكل مة قد تج نب ال مة كثيرا من المشكلت والقل قل ،ورب ما أغ نت عن
معركة حامية ،ل بد منها لحقاق حق ،أو البتعاد عن كارثة.
27
][20
المقالة السادسة
السلطان الجائر له وجوه:
ي
ي واجتماعي وثقاف ً سياس ً
وقضائي
أ -جوامع الكلم :المنطوق والفحوى:
من هو ال سلطان الجائر المق صود بالحد يث؟ أو تي الر سول صلى ال عل يه
وسـلم جوامـع الكلم ،وجوامـع الكلم هـي الكلمات الموحيـة ،التـي تحتوى على معان
أخرى إضافية.
أشار إلى ضرورة النتباه الى المعاني الضافية والثانوية ابن دقيق العيد ،كما
أشار ابـن القيـم للمعانـي الضافيـة أو غيـر المباشرة ،ومثـل بأنواع منهـا الفحوى
وقياس المخالفـة ،كمـا ذكـر الشوكانـي فـي ارشاد الفحول مثال ذلك قوله تعالى "
وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا ،فقياس المخالفة يقتضي قاعدة مقابلة :هى نولي
بعض الصالحين بعضا ،وهذا وذاك قانون من سنن ال الجتماعية والسياسية.
ال سلطان الجائر فلنتأ مل و سنجد أ نه هو في الغالب كل م سؤول على ال سلطة
عن طر يق القهر والغل بة ،دون شورى من الم سلمين ،ول انتخاب ،دون أن تتوا فر
ف يه صفات المام الشر عي ،كالعدالة والكفا ية والمشاورة ،و كل حا كم م ستبد ف هو
جائر لن رذيلة الستبداد هي جرثومة كل فساد.
الحا كم الجائر كل حا كم يح كم حكما مطلقا ،من دون د ستور يحدد صلحياته،
بإرادة المـة وسـلطتها المجسـدة بمجلس نواب يراقبـه ويحاسـبه ويرسـم خطوط
السياسة الخارجية والداخلية المجسدة أيضا بالسلطة القضائية المستقلة والمجسدة
ايضا بحصر عمله فى السلطة التنفيذية.
وقـد يكون سـلطانا طاغوتا يلبـس برقـع السـلم ،كمـا هـو شأن أكثـر الدول
ال سلمية في الع صور القدي مة ،و قد يكون سلطانا ل يأ به بال سلم ،ك ما هو شأن
كثير من الدول السلمية الحديثة ،التي شاع فيها قيام الحكم على أساس وطني أو
قومي .وقد يكون سلطان جائرا أخلقيا ،يبيح الزنا والفجور والخمور والمجون.
28
][21
ب – السلطان الثقافي الجائر:
فحوى الحديث تشمل كل ذي سطوة وبأس ،فقد يكون السلطان الجائر ثقافيا،
كأن يكون السـلطان هيئة ثقافيـة ،ذات نفوذ ل يسـتطيع أحـد معارضتهـا ،وأن ل
تعرّض للذى والمطاردة ،تحت كر مرا كز العلم والثقا فة ،و قد يكون هيئة إ سلمية
تحت كر تف سير الد ين ،وتبتدع في أ صوله وفرو عه ،وتلزم الخر ين برأي ها ،وتخالف
السـلطان لمآربهـا ،كمـا يسـتغلها السـلطان أيضا لغراضـه .وكـم مـن النماذج عـبر
العصـور ال تي نجـد في ها تحالف ثنائ ية ( الفقهاء والمراء ) على ال ستبداد بشئون
الناس .كمـا فـى تحالف فقهاء المعتزلة مـع السـلطان العباسـي .والتـي تجلت فيهـا
حر ية الراي والت عبير والجتهاد من خلل كلمات ال حق ال تي قال ها المام أح مد بن
حنبـل رحمـه ال ،ورفـض مـن خللهـا جـبر السـلطان الثقافـي الدينـي ،فكان جزاؤه
الضرب والسجن والذى.
وقـد تكون سـلطة طائفـة إسـلمية تقمـع المذاهـب والطوائف السـلمية ول
تسمح بغير مذهبها .وقمع الحرية السامية بدعة قديمة منذ العصر العباسي ،وهي
التـي مهدت للدويلت الطائفيـة التـي ظهرت بعيـد العصـر العباسـي واسـتمرت حتـى
اليوم ،قبل ظهور مفهوم (المواطنة) في الدول العربية والسلمية.
من أجل ذلك فإن السلطان الجائر ،يدخل فى مفهومه سلطة الطائفة السلمية
القامعة ،التي تحتكر تفسير الدين ،وتضلل المجتهدين والمخالفين ،ول تجيز لحد أن
يف تي بخلف ما ترى .و هي بذلك ت خل با صل من ا صول العقيدة هو حر ية الراي
والتعبير السامية ،التي جسدها المام أحمد بن حنبل بحقه فى الجتهاد.
وكـل مفكـر أو مثقـف أو طالب علم أو عامـي يجهـر برأي ل يخالف قطعيات
الكتاب والسنة ،فقد قال كلمة حق ،ولو كانت كلمته في رأينا خطأً.
إن قمع الحرية السامية من الباطل ،وفتح النوافذ للشمس والهواء من الحق.
كما في كلمات الحق التي قالها المام أحمد بن تيمية رحمه ال وكان جزاؤه السجن
الذي طال وتكرر ح تى توفاه ال ف يه .عند ما ها جم الجمود والركود ،والوقوف على
مظا هر الد ين والعزوف عن مقا صده العظ مى ،ال تي ينب غي اعتماد ها ع ند الوقائع
والنوازل ،ك ما في م سائل الطلق .وال سلطة ال سياسية الجائرة ،تحرم حر ية الرأي
والتعبير والجتماع والتجمع السامية.
][22
29
ج ـ سلطان القضاء الجائر :
والسلطة القضائية المتحالفة مع السلطة السياسية ،أو التي هي تابع مستكين
أقسى وأمر على المجددين المصلحين المجاهدين من غيرها ،لنها تضرب بسيفين
معا :سـيف الديـن ،ومـا فيـه مـن فتاوى بالكفـر والنحراف والزندقـة ،والفتنـة
والبدعـة ،وسـيف الدنيـا ومـا فيـه مـن أحكام بالقتـل على الردة والبغـي والحرابـة
والفتنة ،وقد عانى من هذه السلطة كثير من المفكرين السلميين ،كأحمد بن حنبل
وا بن تيم ية وا بن القيّ م ،وا بن ر شد الحف يد وا بن حزم ،ومح مد عبده .إن ال سلطان
ال سياسي الجائر ،سواء أكان فى القد يم أو الحد يث له ثلثة أسلحة :الول السلح
العلمـي ،مـن خلل تزييـف الثقافـة ،وقمـع الوعـي عـبر الصـحف والمسـاجد
والكتب ،وسائر وسائل العلم
الثاني :القمع البوليسي عبر الهراوة واليد الفولذية.
الثالث :القمـع القضائي ،الذي يضـع على اليـد الفولذيـة ،قفازا مـن حريـر ،
مكتوب عليه كلمات العدالة والشريعة والحق.
][23
د – عن السلطان الجتماعي الجائر:
وهناك ما هو أ خف ق سوة من ال سلطة ال سياسية والثقاف ية والقضائ ية و هو
السـلطة الجائرة الجتماعيـة ،فالعادات الجتماعيـة المتخلفـة ،أطغـى وأقوى مـن
السلطة السياسية ،وخرافات وترهات العوام ،أخطر على المجددين والمصلحين من
ظلم الحكام ،لنهـا عوائد اجتماعيـة ،رانـت واسـتقرت فـي العقول ،فأصـبح إنكارهـا
مغامرة تقود إلى المجهول.
إن المجدد والمصلح والداعية ،يخالف الحكام ،فيكتسب تأييدا شعبيا ،ولكنه
عند ما يحارب التخلف الجتما عي قد تجت مع عل يه أنواع المؤذيات من كل جا نب،
عـبر العزل الجتماعـي ،والعزل السـياسي معـا ،فعبارة السـلطان الجائر تتضمـن
أمرين:
الول :السلطة التي تخضع الناس رغبا ورهبا ،وكل من خافه الناس ورجوه
فهو سلطان ،سواء أكان سياسيا أم قضائيا أم ثقافيا أم اجتماعيا.
الثا ني :الجور ،و كل من حاد عن الطر يق الم ستقيم ف هو جائر ،و كل جائر ل
يتوقع أن يعامل الخرين والناصحين بالعدل والنصاف.
إن كل جور أو خلل سياسي ،إن ما هو نا تج عن خلل اجتما عي ،وأن كل خلل
30
اجتماعـي ،يحتمـي بخطاب ثقافـي ،يؤطـر التخلف ويرسـخ الختلل ،وأن كـل خلل
سياسي ،إنما هو حاصل تراكم الخلل الثقافي والجتماعي معا.
إن التخلف كالتقدم ،مثلث ذو ثل ثة أضلع :ضلع سياسي وآ خر ثقا في وثالث
اجتماعي ،فالسطان الجائر ،هو سلطان قامع ،سياسيا أو اجتماعيا أو ثقافيا.
31
][24
المقالة السابعة
النصيحة العلنية هي القاعدة
والنصيحة السرية استثناء
أ – البدء بالقول اللين:
أمر ال عباده بالدعوة إلى الحق ،بالحكمة والموعظة الحسنة ،فقال :ادعُ إلى
سبيل ر بك بالحك مة والموع ظة الح سنة وجادل هم بال تي هي أح سن ،ولذلك ينب غي
ح سن التأ ني في مخاط بة الناس ،بتقد يم الكلم الل ين اللط يف ،مه ما كان المخا طب
عا صيا أو ظالما أو كافرا ،ف قد أ مر ال كلي مه مو سى وأخاه هارون عليه ما ال سلم
بالبدء باللين فقال :فقول له قولً لينا لعله يتذكّر أو يخشى.
فالحلم والرفـق ،ولطـف الخطاب ،هـو الصـل فـي الدعوة ،وهـو الذي تؤكده
الشري عة ،ول ينب غي البدء ب سواه ،ول التقل يل من جدواه ،بل ي جب تكراره مرارا،
فقلوب البشر ليست أصلب من الصخر ،الذي يؤثر فيه حبل السانية الضعيف ،حتى
يحفر فيه خطا ،يقسم كتلة الصخرة قطعتين ، :كما قال الشاعر:
اطلب ول تضجرَ من مطلب×فآفة الطالب أن يضجرا
أما ترى الحبل بتكراره×في الصخرة الصماء قد أثرا
ومـن المناسـب مخاطبـة السـلطان أيا كان سـياسيا أو اجتماعيا أو ثقافيا أو
قضائيـا ،بمـا اعتاد أن يخاطـب بـه ،إذا لم يكـن فـي ذلك محذور شرعـي ،ومـن
الضروري ذكـر محاسـنه ،والعتراف بمـا له مـن فضـل ،فالعتراف بالفضـل عيـن
النصاف ،قال ال تعالى :وأقسطوا إن ال يُحبّ المقسطين[ الحجرات ،]9 :والقسط
فاعدلوا [النعام " .]152 :ول
هـو العدل فـي القوال والفعال ،قال تعالى :وإذا قلتـم
يجرمن كم شنآن قوم ،على أن ل تعدلوا ؛ اعدلوا هو أقرب للتقوى " أف ضل مقامات
العدل ،وهو العدل عند الغضب والموجدة والعداوة.
إن عل مة إن صاف الن سان ،واعتدال مزا جه وحكم ته ،هو أن يعدل فى م ثل
ـنـى الخطاب ،كان مـ ـاب فـهذه الحالت ،وإذا اضاف الى العدل ،هدوء العصـ
الدعاة بالحكمـة والموعظـة الحسـنة ،فالسـلوب اللطيـف يحفـز المخاطـبين على
الصغاء ،ويزيل الوحشة بينهم وبين الناصح ،فتصل الرسالة أو توشك ،وقد يقتنع
المخاطبون ويسمعون ويستجيبون ،ويدركون أن الناصح مشفق عليهم ،صادق غير
متكلف ،ويدركون أن صديقهم هو من صَدَقَهم ل من صدّقهم ،ك ما قال ال تبارك
32
وتعالى :ومن أحسن قولً ممّن دعا إلى ال وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين
* ول تستوي الحسنة ول السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة
كأنه ولي حميم * وما يُلقّاها إل الذين صبروا وما يُلقّاها إل ذو حظّ عظيم[ فصلت:
.]33-35
وكذلك ينبغـي أن يعرف المخطئيـن ،بالمعروف الذي تركوا ،والسـوء الذي
ارتكبوا ،فقد يكون خطؤهم ناتجا عن جهل بالمر .وأكثر ما يكون ذلك في العادات
ال تي ي شب علي ها ال صغير ،ويهرم علي ها ال كبير ،ك ما قال أ بو ب كر الجزائري« :إن
النفس النسانية تعتاد القبيح فيحسن عندها ،وتألف الشر فيصبح طبيعة لها ،فذلك
شأن ال مر بالمعروف والن هي عن المن كر ،إذا ترك ولم يؤ مر به ساعة تر كه؛ ل
يلبث الناس أن يعتادوا تركه ،ويصبح فعله عندهم من المنكر ،وكذلك المنكر إذا لم
يبادر إلى تغييره وإزالته ،لم يمض يسير من الزمن ،حتى يكثر وينتشر ،ثم يعتاد
ويؤلف ،ثم ي صبح في ن ظر مرت كبيه غ ير من كر ،بل يرو نه هو المعروف بعي نه»
(منهاج المسلم.)88 :
][25
ب – النصحية السرية شذوذ على القاعدة ل يقاس
عليه :
أ سلوب الل ين والل طف ل يق صد به الن صيحة ال سرية ،ك ما يتو هم كث ير من
الناس ،فالقول بالبدء بالن صيحة ال سرية ،فضلً عن القول بترك يز ال مر بالمعروف
ب ها ،قول في الشرع بغ ير دل يل ،وابتداع في الد ين بغ ير ما شرع الحك يم ال خبير،
ينبغي التزام النصيحة السرية فيهما:
الولى :الجانب الشخصي من حياة الفاجر ،إذا كان الحاكم مقترفا في السر
بعـض الموبقات ،كشرب الخمـر والزنـا واللواط ،على أنـه ل ينبغـي للمحتسـب أن
يتعرف على هذا المنكر من خلل التجسس على الناس في بيوتهم ،أو يرفع ثياب
أحدهم ليرى ما تحتها ،أو يكشف الغطاء ليعرف ما في الوعاء ،إذ الشريعة أمرت
بسـتر عورات الناس ،ونهـت عـن التجسـس عليهـم قال تعالى :ول تجسـّسوا
[الحجرات ]12 :وقال رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم« :ول تحسـّسوا» (رواه
البخاري) وقال عليه أزكى الصلة والسلم« :من ستر مسلما ستره ال في الدنيا
والخرة» (رواه مسلم).
الثانيـة :إذا كان المنكـر فـي مجال أسـرار الدولة العامـة ،التـي يضـر نشرهـا
بمصالح الدولة العليا ،ويبين ثغراتها للعداء في الخارج ،وللمنافقين والفوضويين
في الداخل .والبدء بالنصيحة السرية في هذين المجالين حسن ،بل هو الولى ،ول
33
سـيما إذا كان الناصـح مـن مخالطـي السـلطان ،أو مِن مَن يسـهل عليـه مخاطبـة
الرؤسـاء ،كأن يكون مـن العيان والوجهاء ،أو كبار المدراء والعلماء ،فإن وجـد
الناصـح اسـتجابة ولو قليلة ،واصـل مشوارهـا ،وإن وجـد إعراضا أو عنادا وجـب
عليه الجهر.
وليست النصيحة السرية مشروعة ،إل في مثل هاتين الحالتين ،لن كثيرا من
أهل الرأي والصلح ،ل يقدرون على مشافهة الحاكم ،ولنهم ل يضمنون أن تصل
مكاتبت هم إل يه ،و من ه نا ل ينب غي أن يترك النا صح المن كر منتشرا محتجا بأ نه لم
يستطع أن يناصح في السر.
النصيحة استثناء من القاعدة
وللكتفاء بالنصيحة السرية ،محاذير ينبغي ادراكها منها:
أن ل يزول المن كر ،وتحال ن صيحة النا صح إلى سلة المهملت .ومن ها أن
يساء للناصح ،في رزقه ووظيفته ،أو جاهه ومنصبه ،أو في نفسه وحياته.
ومن ها أ نه رب ما لف قت له ته مة ت صوره ب ين الناس مجرما منبوذا ،وتشوه
سمعته.
ومن ها أن ل يتم كن الناس من معر فة جهاده ،لتخاذه قدوة وأ سوة ،بل قد
يظنو نه من أعوان الظل مة إن لم ي كن من هم ،ويعدو نه راضيا موافقا ،وأخ طر من
كـل مـن مـر أن الناس سـيظنون أن الجور والسـتبداد وقمـع الحريـة السـامية
والفساد أمرا مقبولً في الشريعة ،لن علماء الشريعة لم ينهوا عنه.
ول ب ّد للمجاهـد المدنـي ،مـن أن يوازن بيـن المصـالح والمفا سد في النتائج،
فل يس الف طن من عرف الخ ير من ال شر فح سب ،بل هو من عرف أف ضل الخير ين
وأهون الشرين ،كما ذكر أحد العلماء.
][26
ج – فاصدع بما تؤمر:
فإذا لم يزل المنكر بالهمس ،سواء أكان الهمس مقالة أم خطبة أم رسالة ولم
ت بد علمات إيجاب ية ل سلوب الل ين والل طف ،فل ب ّد من أ سلوب الج هر والل ين معا،
فالمنكرات العامـة ،أمور مشتهرة ول يمكـن أن تزول إل بالجهـر بإنكارهـا ،على أن
الجهـر ل ينبغـي أن يعدل عـن الليـن إلى الشدة ،ولكـن الليـن ل يعنـي التخاذل
والضعـف ،والتهاون والتسـاهل ،قال تعالى :فاصـدع بمـا تؤمـر[ الحجـر،]94 :
والصـدع ل يعنـي الغفلة عـن حسـن الدب ،ولكنـه يعنـي وضـع العواطـف الثائرة ،
والموضوعات الصعبة ،فى عبارات هادئة.
ولذلك نص الفقهاء على البدء بوعظ الظالم «بما يرقق قلبه ،بذكر ما ورد في
34
الشري عة ،من موا عظ الترغ يب والتره يب ،فإن لم يح صل امتثال ،ا ستعمل عبارات
التأنيب والتعنيف والغلظ في القول» (الجزائري :المنهاج.)90 :
ومن خزعبلت إبليس ،التي رانت على النفوس ،في عهود التأخر والتدليس،
أن يقصر الفقهاء والفضلء الحتساب على الحكام بـ (النصيحة السرية) ،وأن يعد
الجهر والعلنية والصدع ،من مجافاة أدب (الحكمة) و(الموعظة الحسنة) ،وشر من
هذا وذاك أن يعدوا تقويـم انحرافات السـلطة ،ومناهضـة الجور والظلم( ،فتنـة)
ودعوة إلى (الفوضـى) ،أو (الفسـاد فـي الرض) ،كيـف ذلك؟ والرسـول صـلى ال
عل يه و سلم يقول ( في الحد يث ال صحيح)« :لتأطرن هم على ال حق أطرا ،ولتق صرنهم
على الحـق قصـرا أو ليخالفـن ال بيـن قلوبكـم» .وكيـف يؤطرون مـن دون إشاعـة
الخطاب ،مـن اجـل كسـر سـلطان جورهـم وجـبرهم المادي ،بسـلطان معنوي أمام
الرأي العام.
فال مر بالمعروف والن هي عن المن كر في ش قي العقيدة المد ني والرو حي من
أ هم فرائض ال سلم وتحقي قه ي ستلزم حر ية التج مع ،وهذا مع نى اليات الكري مة "
وتوا صوا بال حق وتوا صوا بال صبر" و " لت كن من كم ا مة يدعون إلى الخ ير" وقوله
صلى ال عل يه و سلم " من رأى من كم منكرا فليغيره بيده فان لم ي ستطع فبل سانه "
وقوله صلى ال عل يه و سلم في الحد يث الذي رواه عبادة بن ال صامت ر ضي ال
ع نه " بايع نا ر سول ال صلى ال عل يه و سلم على ال سمع والطا عة ،في الع سر
واليسـر والمنشـط والمكره ،وعلى أثره علينـا ،وان ل تنازع بالمـر أهله ،إل أن
تروا كفرا بواحا عندكم من ال فيه برهان وعلى أن تقول الحق أينما كان ل تخاف
في ال لومة لئم" ( أخرجه البخاري ومسلم) ،فصار من صفات المواطن الصالح
في السلم أن يشارك في الشئون العامة ،وقد نص الفقهاء كالنووي على أن ظلم
الدولة من الكفر البواح.
واعتـبر رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم ترك إعلن الرأي دللة على رضـا
النسان بالهوان وتقبل الحتقار ،فقد روى أبو سعيد الخدري رضي ال عنه ،قال
35
قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " ل يحقرن أحدكم نفسه ،قالوا :يا رسول ال
وك يف يح قر أحد نا نف سه ؟ قال :يرى إن عل يه مقالً ،ثم ل يقول بت ،فيقول ال
عز وجل يوم القيامة :ما منعك إن تقول في كذا وكذا ،فيقول خشية الناس فيقول
:فإياي كنت أحق أن تخشى " ( رواه ابن ماجه ) .
وحق الجماعات في مراقبة الحكام ونصحهم ونقد تصرفاتهم يستلزم ضرورة
تم تع الفراد والجماعات بحر ية الجتماع والتج مع .إن الق يم المع تبرة فى كل أ مة
قوية إنما هي متقررة فى الشريعة المطهرة .
العدل أسـاس الحكـم ،والشورى هـي حوض العدل ،والحريـة هـي هواء
الشورى ،والتجمعات المدنيـة هـي مصـدات رياح الهواء والسـدود أمام الطغيان
وتقر ير مبدأ الشورى و ما يتر تب عل يه من مناقشات ي ستلزم أي ضا حر ية التج مع ،
فل يمكن تطبيق الشورى من دون حرية تجمع ،ومن الخطل إن يتصور احد قيام
الشورى ،بدون حرية الرأي أول وحرية التجمع ثانيا.
ولذا وجـب إن يتربـى الفراد والجماعات على حريـة الرأي والتجمـع ،وكان
الخلفاء الراشدون ويعيبونهـم إذا سـكتوا ،قال رجـل لعمـر بـن الخطاب اتـق ال يـا
عمـر فقال عمـر :إل فلتقولهـا فل خيـر فيكـم إن لم تقولوهـا ،ول خيـر فينـا إن لم
نسمعها وكلمة اتق ال تشمل النصح والمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وهذا
كله يقتضي حرية التعبير .
ولذلك صارت الشجا عة من م ستلزمات حر ية الرأي فل حر ية لرأي ،إذا لم
يكـن الناس على قدر كاف مـن الشجاعـة والجرأة والجسـارة ،ل بالخوف والتهيـب
من ذوي ال سلطان ،يرا كم حشرات الض عف والج بن ،فل ي ستطيع الن سان إن يأ مر
36
بمعروف ،أو ينهى عن منكر ،وهذا أمارة هلك المة ،وقال النبي صلى ال عليه
وسلم " إذا رأيت أمتي تهاب إن تقول للظالم لم فقد تودع منها ".
وال مر بالمعروف النهي عن المن كر ،وهو باب وا سع يش مل (معار ضة) كل
ما يخالف السلم ،وهو أمر عام لكل إنسان استنادا إلى قوله تعالى " ولتكن منكم
ا مة تأمرون بالمعروف تنهون عن المن كر" (آل عمران .)104:وقوله " كن تم خ ير
امـة أخرجـت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عـن المنكـر " (آل عمران)110:
وقول الرسـول صـلى ال عليـه وسـلم ( مـن رأى منكـم منكـر فليغيره بيده فان لم
يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه ،وذلك اضعف اليمان "
فأو جب ال على أ هل العلم وعرفاء الناس ،من دعاة الق سط و الن صاف إن
يقودوا مراكـب أصـلح مجتمعاتهـم ،وان يجهروا بالحـق ،مسـتشعرين بأنهـم
محا سبون عن هذه الحر ية ،ال تي ي جب إن يوظفو ها لن شر ال حق والعدل والدعوة
إلى ال ،قال تعالى " الذ ين يبلغون ر سالت رب هم ،ول يخشون احدا إل ال وك فى
بال حسيبا".
ولذلك قر نت الن صيحة بالبي عة ،ك ما في حد يث جابر ر ضي ال ع نه " بايع نا
رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم على السـمع والطاعـة والنصـيحة لكـل مسـلم "
( رواه البخاري ومسلم والنسائي) .
ـن يداهنون ويراجعون
ـد الذيـ
ـن كتمان العلم ،وتوعـ
وحذر تبارك وتعالى مـ
ويخافون غير ها ،أو يبحثون عن رضاه قال تعالى " وإذ ا خذ ال ميثاق الذ ين أوتوا
الكتاب لتبيننه للناس ول تكتمونه" ،ثم بين جزاء من يسكتون عن الحق فقال " إن
الذ ين يكتمون ما أنزل نا من البينات والهدى من ب عد ما بيناه للناس ،أولئك يلعن هم
ال ويلعنهـم اللعنون" وقال الرسـول صـلى ال عليـه وسـلم " مـن كان عنده علم
37
فكت مه ال جم ال بلجام من نار يوم القيا مة" ( رواه أ بو داوود والترمذي وا بن ما جه
واحمد) .
وهذا إلزام لهـل العلم وعرفاء القوم خاصـة ،وسـائر الناس كافـة بحريـة
القول ،وبالج هر بال حق ،ولذلك قال الر سول صلى ال عل يه و سلم " سيد الشهداء
حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى سلط ابن جائر فأسره ونهاه فقتله".
][27
د – بين الفتنة هي التهاون أمام الستبداد والفساد:
واعتبار الج هر بالن صح وال صلح أمرا ل تح مد عقباه ،أو فت نة وف سادا من
أعجـب العجـب ،لن النصـوص الشرعيـة لم تقيـد كلمـة الحـق والعدل والخيـر ،بأن
تكون أسرارا أو إضمارا.
ف ما أ حل ال ف هو حلل ك يف يج عل الغافلون حر ية الرأي والت عبير والجتماع
والتجمع السامية ،من الفتن .وهم بذلك داخلون فى الكذب على ال وعلى رسوله،
واعتبار أمـر مـن المور فتنـة أو فوضـى أو فسـادا فـي الرض ،ل يكون إل بدليـل
شرعـي صـريح ،مـن المحظورات المحرمات ،وكأنهـا الدعوة إلى الربـا والزنـا،
والخروج على الحكم الشوري العادل بحمل السلح.
ف ما أف ظع التجاه إلى تبرير ال سكوت عن النحراف ال سياسي والجتما عي،
والتعذير لسلطان الجور والقهر ،مهما كانت نية (حزب التبرير السفنجي ) حسنه،
ومهما كان صلح أفراده الشخصي ،ومهما كانت دوافعهم الواقعية ،فإنه رسخ في
ثقافتنا سلوك التعايش مع انحراف الحكام ،وهو تحريف للمقاصد الشرعية ،وتأويل
فاسـد للنصـوص الصـريحة ،وهـو يصـب فـي تيار تحليـل الحرام ،وتحريـم الحلل،
ولذلك فهو لون من الوثنية السياسية .كما قرر المفسرون فى تفسير آية التوبة "
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا "
فاعتبار ن صح ال سلطان ون قد أخطائه ووع ظه وزجره وتقو يم انحرا فه فت نة،
إنما هو بدعة كبرى فى الدين ،إنه يشبه أسلوب القاعدين عن الجهاد ،الذين رأوا
الجهاد فتنة فقالوا «ل تفتنا» .فرد عليهم الخبير العليم :أل في الفتنة سقطوا.
وأنت الفاتن الكبر وتزعم أنها فتن ×
أمـا الكتفاء بالهمـس فـي الذن ،سـواء زال السـوء أم ازداد ،واعتباره مـن
(الحك مة) الشرع ية ،والموع ظة الح سنة المطلو بة ،ف هو بد عة صريحة ،وتحر يف
لمفهوم (الحكمـة) ،لم يسـلكه النـبياء والمرسـلون الذيـن أوتوا الحكمـة وفصـل
الخطاب.
38
والم صطلحات الشرع ية ،ومن ها (الحك مة) و(الفت نة) ل يجوز تحد يد مدلول ها
بالوا قع الفا سد ،ول بالهواء الشائ عة ،ول بالظنون والوهام ،إن ها محددة المفهوم
والمضمون ،بالنصوص الشرعية ومقاصدها وبأحوال الحقل النبوي الراشدي.
و من جهل الن صوص الشرع ية ،فلينظر آثار أعمال هؤلء الذ ين سكتوا عن
منكرات الجور والجـبر ،هـل أدت إلى ترق فـى الصـلح والرشاد ،أم إلى ترد فـى
الفواحش والفساد .فهذه هي المسطرة ،ومن جهل آيات المسطورة فى الكتاب ،
لم يجعل آياته المشاهدة فوق مسرح الحياة .هذه سنن ال فى النسان والجتماع
والطبيعـة .وتلك سـنة الشريعـة .فكيفـت تتعارضان؟ والخلصـة أن مـن ظـن أن
(الحك مة) في ال سكوت على ما ل يح قق لل مة سموا روحيا ومدنيا معا ،ف قد أف تى
برأيه وخالف الدلة الشرعية القطعية ،وقد فصل المام الشاطبي هذه المفاهيم فى
كتاب( العتصـام ).وسـنفصل مسـألة (البدعـة) و(السـنة) فـي مقالة أخرى إن شاء
ال.
39
][28
المقالة الثامنة
الكلمة مشروع إصلحي
أ – الكلمة المكتوبة:
إن كلمات الخير والحق والعدل ،ليست محددة بعبارة موجزة تقال في مجلس،
ول محصـورة فـي عبارة هامسـة تقال فـي أذن ،إن مـن تبسـيط المور المعقدة ،أن
يظن النسان أن الكلمة محصورة في حديث شفوي ،قد تطير به الريح ،وقد يكون
مبهما يفتقر إلى الوضوح.
وليست محصورة في عالم ،يطرق باب الحاكم حتى يصل إليه ،ويفرغ ما في
جعبته من أفكار ،ثم ينصرف وقد أحس وأحس الناس معه ،أن ذمته وذمم الجميع
قد برئت.
ف قد تكون الكل مة خط بة فوق م نبر ،من وا عظ أو داع ية ،أو مث قف أو عالم،
وقد تكون مسرحية فوق خشبة مسرح ،أو تمثيلية عبر شاشة تلفاز.
و قد أثب تت الكل مة المكتو بة اليوم تفوق ها في مجالت كثيرة على المنطو قة،
فمـن الممكـن أن تكون مقالة فـي صـحيفة ،أو أفكار فـي كتاب ،أو مشروعا فـي
رسـالة ،أو تحقيقا صـحفيا ،أو قصـيدة ثائرة ،أو قصـة صـريحة هادئة ،ثـم أثبتـت
الكل مة ( عبر ال صوت وال صورة ) أن ها أعلى من هات ين فرب صورة أو صوت في
قناة تلفازية أقوى من ألف كلمة.
ول ريـب أن لهـل الثقافـة ،فـي ذلك دور كـبير ،سـواء أكانوا أهـل صـحافة
وإعلم ،أم أ صحاب رأي وف كر ،أم أ هل أدب وش عر ون ثر ،فال صلح المد ني معر كة
جهاد ،يشترك في ها كل را جل وفارس ،ب ما تدرب عل يه من سلح ،فلعالم الشري عة
ذي الجتهاد الخاص بالمناسك ،دور كلما ازداد فهمه وصار من أهل الجتهاد العام
فـي الشؤون المدنيـة .وللعلماء الخـبراء مـن ذوي الجتهاد العام فـي شؤون المـة
وظائف :لعالم ال سياسة دور م هم ووظي فة ،ولعالم الجتماع وظي فة ،ولعالم الترب ية
وظيفة ،وللمؤرخ وظيفة ،وللمهندس في الزرع كلمة ،وللمهندس في المصنع كلمة،
وللمهندس المعماري والمدنـي كلمـة ،وللداري مجال ،وللمهندس الزراعـي مجال
آخر ،وللتقني مجال آخر.
إن أحوج ما نحتاج إليه اليوم ،هم علماء الجتماع السياسي عامة ،وعلماء
التغيير الجتماعي خاصة ،متى ما كان لديهم ثقافة اسلمية.
40
ولقـد وجدت فـي العصـر الحاضـر ،وسـائل عديدة مفيدة ،وقنوات إعلميـة
عديدة ،تناسب تعقيد العصر ،ولذلك صار من المناسب أن يستغلها المجاهد المدني.
][29
ب – من كلمة الفرد إلى كلمة الجماعة المبلورة
فى بيان أو خطاب عام:
إن من تبسيط المور اليوم أن تركز كلمة الجهاد ،على كلمةعابرة من شخص
منفرد ،بـل إن مـن الضروري أن تكون الكلمـة أيضا ،فـي صـور أخرى ،كأن تكون
بيان توقعه جماعة من الناس فى مذكرة مصوغة بفكر موضوعي ،وأسلوب شعبي،
تذ كر ال سباب والنتائج ،وتتحرى الموضوع ية في التحل يل ،والوضوح في العرض،
والقناع فـي التدليـل ،والصـدق فـي الطلب ،والصـحة فـي المعلومات ،وتعتمـد على
الحقائق والرقام ،لكي تكون أحرى بالقبول والقناع.
وقصـر مفهوم الكلمـة على مـا يتبادر إلى الذهـن ،مـن أنهـا كلمـة مـن فرد،
يجعلها سلحا غير كاف ،أمام كثرة النوازل ،وتعقيد الوقائع .وليست الكلمة صرخة
احتجاج على وضع فاسد من واعظ بتحريم الربا ،ودعوة إلى إلغاء بنوكه ،ولو سئل
كيـف نصـنع؟ إذا أردنـا إنشاء بنـك إسـلمي ،لقال ل أدري اسـألوا المختصـين كأنـه
يت صور البنوك ال تي يقوم علي ها اقت صاد الدولة م صانع خمور يم كن أن تحول خلل
أسابيع إلى مصانع عصير طماطم.
إذن ل ب ّد من المخت صين ،ول بدّ أن تجت مع الكلمات ،وتجت مع جهود الناس ،
ول سيما من النخبة ،الفقهاء وأساتذة الجامعات والمفكرين والمثقفين .لتكون كلمة
الحـق معروضـة عرضا منطقيا علميا ،يسـتند إلى صـحة المعلومات ،وشرعيـة
الوسائل والغايات ،وواقعية القتراحات والبدائل.
لن هذه الكلمة بهذا الشكل (حكمة) و(حنكة) ،يعبّر بها المجاهدون المدنيون
عن وعي هم وواقعيت هم ،وبذلك يقنعون من أراد القتناع ،من الذ ين تلت بس علي هم
المور من الخاصة والعامة ،من الباحثين عن الدليل والبديل ،وفي ذلك حجة على
الباحث ين عن الشهوات فى ظلل الشبهات من الغافل ين والمتجاهل ين ،والمخدوع ين
والخادعين.
إن مـن التبسـيط أن يظـن النسـان ،أن الجهاد المدنـي فـي المور المعقدة،
مجرد كل مة عاطف ية جريئة ،في إ صلح أمور الدولة الجليلة ،كالقت صاد والترب ية
والسياسة ،أجل ليس مجرد كلمة عابرة ،بل هو كلمة مقنعة.
وكثيـر مـن أهـل الدعوة والصـلح ،يشنـع بالواقـع الفاسـد ،ويشيـر إلى
المشكلت ،ول يقدم القتراحات ،وهذا غفلة عـن السـلوب العملي الواقعـي ،فقـد
يكون الحا كم الجائر في أحيان غ ير قليلة ،م ستعدا لرضاء أ هل ال صلح ،ولك نه
41
غير مقتنع هو ول مراكز قواه ،بالمغامرة إلى المجهول في مثل قضية الربا.
ثم إن إ صلح أمور الدولة ،يتطلب جهودا ضخ مة ،ف هو يتطلب أو ًل أن يكون
طال بو ال صلح عارف ين ب ما هو المطلوب ،وبالبد يل المنا سب ،وبعوائق ال صلح،
وقادرين على طرح فكر موضوعي ،يعالج المشكلت ،فلنأخذ مثلً المناداة بالدستور
أو باسـتقلل القضاء ،كـم تحتاج مـن الشرح والبيان ،وتكاتـف الطالبيـن وتعاونهـم
وتكاثرهـم ،وحاجتهـم إلى إقناع القوى التـي تعوق الصـلح ،مـن متشبثيـن
بمراكزهم ،ومن مستفيدين من الفساد ،ومن محافظين على عوائد متخلفة ،ومن
سادرين أمعيين.
][30
ج ـ المشروع الصلحي يبدأ بالساسيات:
إن الشجاعة في النخبة ل تكفي ،فل بد لها من الخبرة ،والخبرة ينبغي أن
تدرك ما هو أساسي في المور ،إذا صلح أدى إلى صلح غيره ،من أجل ذلك فإن
الحرص على صـلح التعليـم أو القتصـاد أو التربيـة أو الزراعـة ل يشفـع ،إذا لم
يدرك دعاة الصلح ،أن الصلح السياسي هو أساس صلح جميع المور ،وأن
الدعوة إلى الصلح السياسي تسبق كل شيء ،والمسألة بسيطة.
أليـس الحكـم الجـبري الجائر هـو سـبب محننـا منـذ العصـر الموي؟ .أليـس
مقتضــى البيعــة على الكتاب والســنة لزوم العدالة والشورى؟ ،أليســت العدالة
والشورى شرطين فى الحكم ،وكيف يتحققان من دون قيام النخب الثقافية ول سيما
الفقها ،بانتزاع حرية الرأي والتعبير ،عبر التجمع أولً.
][31
د – نخبة( العرفاء ) :ينبغي أن تتقدم مشروع
الصلح السياسي
وبذلك يتـبين أن المـر بقول كلمـة الحـق ،ليـس خاصـا بالفرد ،بـل عام للفرد
والجماعة ،ومن هنا تأتي أهمية التجمعات الهلية.
فل بدّ أن تتوا كب الكلمات ،كي ت صبح مشار يع لل صلح ،وذلك أ مر ل يم كن
أن يتحقـق ،إل بتحول الكلمات الموجزة العابرة ،إلى مشاريـع إصـلح عـبر البيانات
والمذكرات.
وهذا أمر يدعو إلى أن تتآلف الكلمات ،على شكل مشروعات إصلح جزئية،
يشترك فيهـا كـل مختـص بمـا يسـتطيع ،فتصـبح المشاورة والمراجعـة ،عنصـرا
ضروريا ل سلمة الفكرة والو سيلة ،وذلك أ مر يج عل كل مة الج مع أف ضل وأجدى من
كل مة الفرد ،وهذا يش ير إلى أن التجمعات الهل ية ،هي العوان على ال حق ،الذ ين
42
ذكر الرسول صلى ال عليه وسلم أن فقدانهم يفشل بوادر المصلحين.
إن مـن يتأمـل أسـباب فشـل كثيـر مـن جهود الصـلح ،يجـد أنـه يأتـي فـي
مقدمت ها ،وأنها جهود فرد ية ،لم تت خذ صيغ المشار يع العمل ية الواقع ية ،إن ما كا نت
كلمات فردية ،ل تشكل رأيا عمليا ،ول تحظى بدعم جماعي.
وكثيـر مـن الناس يشعرون بالراحـة ،عندمـا يعلمون أن فلنا قال كلمـة حـق،
لن فلنا قال ما يشعرون به ،ولعل هم يشعرون بأن واجب هم أيضا قد تم ،بل رب ما
ظنوا أن الن هي عن المن كر قد تم أيضا ،ل نه فرض كفا ية ،وبذلك سقط ال ثم عن
الباقيـن مـن السـاكتين ،وهـم يقولون هذا دون أن يتأملوا أن كلمـة الحـق قـد قيلت،
ول كن المن كر ما ثل لم يزل ،فإن برئت ذ مة قائل منفرد ،يغرد خارج ال سرب ،لم تبرأ
ذمة الساكتين.
وهذا يؤكـد أن قول كلمـة الحـق ل يكون مـبرئا للذمـة إل إذا زال السـوء
والباطل ،ول يزول المنكر بقول أو مذكرة واقعية بل ل بد من تكاتف النخبة .وهذا
يتطلب إذن أن تكون الكل مة المفردة جمعا بل تجمعا ،من النخ بة وأ هل الخت صاص
وال خبرة من ذوى ال سمعة الح سنة ،فى تخ صصهم و سلوكهم العا من الذ ين يتبع هم
الناس ويثقون بكلم هم .هؤلء الذ ين يطلق علي هم فى الل غة العرب ية (العرفاء) ،أي
الذيــن يتعرفون على اهتمامات الناس ،ويصــدرهم الناس لتمثيلهــم وترســلهم
الجماعات للتعرف على ما يهمها ،كما قال الشاعر :
أو كلما وردت عكاظ قبيلة بعثوا الى عريفهم يتوسم
وهذا ما يؤكد وجوب التجمع الهلي المدني ،من أجل الضغط على الحكومات،
لجبارهـا على تحسـين سـلوكها.ولذلك جاءت نصـوص الجهاد والمـر بالمعروف
بصيغة الجماعة ،لن الخطاب لعامة المة ،قال تعالى :ولتكن منكم أمة يدعون إلى
المفلحون .والية ظاهرة
الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم
تأ مر أن تش مل من الم سلمين فئة إ صلحية داع ية للخ ير ،أي أن يكون ث مة تج مع
وتكتل أهلي ،وهذا أقرب الحتمالت لمفهوم أمة.
ومعنى ذلك كما بيّن الصوليون أن فرض الكفاية ،يصبح على القادرين عليه
فرض عيـن ،فهـو بطـبيعته فـي أكثـر الحوال ل يؤديـه إل جماعـة أو تجمعات تقدر
عليـه ،كالجهاد والمـر بالمعروف والنهـي على المنكـر ،وهـو على هذه الجماعـة
فرض عيـن ،وبذلك تصـبح كلمـة الحـق والخيـر والعدل واجبا عينيا ،على الناس
جميعا ،ول سـيما القرب إلى صـفة ( العرفاء ) كالمثقفيـن والمفكريـن والعلماء
والفقهاء وأساتذة الجامعات ورجال الصحافة والفكر ،والمختصين في الميادين التي
يش يع في ها المن كر ،وهذا ما عناه الشاف عي رح مه ال بقوله« :إن الوا جب الكفائي
مطلوب على العموم ،مراد على و جه الخ صوص» (أ صول الف قه ل بي زهرة-38 :
43
،]36أي أنه مطلوب من المسلمين كافة ،ولكن الذي يقوم بهم هم القادرون عليه.
أي أنـه فرض عيـن على القادر عندمـا يقوم بالمبادرة ،وفرض عام على الباقيـن
الذ ين ي جب علي هم أن يعينوا المبادر ين ،وهذا الت صور ل ي تم دون تنفيذه اليوم من
دون تجمعات التجمعات الهلية المدنية.
][32
هـ ـ من تكتل النخبة إلى التكتل الشعبي:
إن الفكار الصـحيحة ،مهمـا كانـت واضحـة فـى رؤوس النخبـة ،ل تسـتطيع
التاثير على حركة الناس ،ما لم تحملها الجماهير ،كما اشار المفكر مالك بن نبي
في (الظاهرة القرآنية) .
من أ جل ذلك ينب غي أن تنزل النخ بة إلى الشارع ،وأول أداة ل ها هو وضوح
الخطاب ،كثير من الكاديميين من من تعودوا التدريس فى الجامعات أو العكوف فى
مرا كز البحاث ،يكتبون بل غة أكاديم ية تخ صصية .وهذه الكتا بة ل تحرك الجماه ير،
الذي يحرك الجماه ير هو الخطاب الوا ضح الب سيط على عم قه ،الذي يل حظ طري قة
القرآن الكريـم فـى المزج بيـن خطاب العقـل والوجدان ،وثانـي ذلك دفـع الثمـن،
فالجماه ير ل تقتنع بصدق المطالب ين بالصلح ،إذا لم يصبروا على أذى ال سلطان،
وقـد ل تقرأ مطالبهـم ،إل عندمـا يدخلون السـجن ،ومـن أجـل ان تحمـل الجماهيـر
الفكار ،ل بد أن ي صبر النخ بة على المتحان ،و صدق ال العظ يم " وجعلنا هم أئ مة
يهدون بأمرنا لما صبروا".
وحر ية التج مع والجتماع حق للن سان في الدولة ال سلمية ،حق يكت سبه
النسـان ذاتيـا ،ل يحتاج إلى اسـتئذان أحـد ،ول يجوز للدولة أن تنقـص منـه ،فإن
انتقصـته أو منعتـه ،فمنعهـا إياه منكـر يجبـب أن تتضافـر المـة لنكاره،إذ ل يجوز
للفرد ول الجماعات التنازل ع نه ،لن قيام الم سلمين بالتعاون للت عبير عن مشا عر
أو مصالح خاصة بجماعة ،أو عامة بالمة من حقوق الناس ول يمكن قيام الناس
بفرائض السلم ،والمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،من دون تجمعات.
44
][33
المقالة التاسعة
سلم الصلح السياسي:
وتكتل شعبي
أ – سبب الخفاق :
إن النسـان المفرد ،قـد يغامـر ويخاطـر ،فيقول كلمـة الحـق والعدل ،أمام
السـلطان الجائر ،ولكـن الصـوت المنفرد ،نادر الجدوى فـي أغلب الحالت .وأقوى
منـه صـوت الفراد المتعاونيـن وأكثـر جدوى ،وقـد يزيـل صـوت الرهـط بعـض
المنكرات ،و قد يح مي داع ية الق سط ،ك ما قال تعالى " لول ره طك لرجمناك " ول كن
الجمع القليل ،ل يستطيع في أكثر الحالت أن يزيل سوءا ول جورا.
ولن ت تم إزالة المنكرات الجوهر ية ،في ال مة ،ال تي تشرع ها دول ال ستبداد
والجور ،إل بم ساندة الرأي العام .فالرأي العام إذا ض غط وطالب ،ي صل إلى مرا مه.
أجل كثير من جماهير الرأي العام غير قديرين على صياغة الكلمة ،أو غير قادرين
على بلورت ها ،و قد يخ فى علي هم ال مر ،فيحتاجون إلى من ينبه هم ويب صرهم ،إن هم
يدركون أن الج سد مر يض ،ولكن هم قد ل ي ستطيعون تحد يد الداء ،ولو حددوه ،ل ما
ا ستطاعوا و صفه ،ولو ا ستطاعوا و صفه ل ما ا ستطاعوا تحد يد العلج ،ول كن هذا
دور النخبة.
النخبة المصلحة فى كل مجتمع تقوم بدورين :الول :الكلمات :تحديد المرض
ال ساس ،وفرزه عن العراض والمضاعفات ،وتقد يم ،مشروع إ صلحي الثا ني :
المواقـف :فتجسـد الكلمات بالمواقـف ،مـن خلل صـبرها على الخوف والفزع ،
واستعدادها للتضحية بالوظيفة والراحة والنفس ايضا ،واستعدادها لدخول السجن
.فهذا هو شرط النخبة التي تجنح بمواقفها الكلمات على غرار قول الشاعر :
جسرا فقل لرفاقنا أن يعبروا إنا جعلنا للخلص جسومنا×
45
فالناس على كـل حال يحتاجون إلى مـن يبادر ويتقدم ،لنهـم إن لم يسـتطيعوا
بلورة الفكار ،أو إنشاء الحلول ،لم يفتهـم أن ينصـروا الفرد والرهـط ،حتـى تصـل
الكلمة إلى أذن السلطان ،قوية مسموعة.
وكل من الفرد والرهط والجمع القليل ،والتجمع الهزيل ،أعزل معرّض للذى،
ف هو معرّض لق طع الرزاق تارة ،ولق طع العناق تارة أخرى ول ب ّد من منا صرته،
ـي ظهره ،كالجهاد ـي ل يقوم بقائد أو رائد ،إذا لم يشدد أزره ،ويحمـ فالجهاد المدنـ
العسكري ،ل يقوم بمجرد قائد بارع.
إن مـن أخطائنـا الثقافيـة والجتماعيـة الكـبرى ،أن نركـز على شخصـية قائد
ملهم ،أو بطل منقذ ،ونتجاهل سنن ال الجتماعية ،التي تعلمنا أن الجماهير هي
ال تي تغ ير مجاري أنهار الحضارات وال مم،وهذا يؤ كد أهم ية الع مل الجما عي في
ـخ على هذه ـد التاريــد شهـ ـلم ،الذي يقوم بالتعاون على البر والتقوى ،وقـالسـ
القضيـة ،بأن قولة كلمـة الحـق ،مـن المفرد والرهـط والجمـع القليـل ،تتعرض
للمصادرة والستئصال ،فتذهب وكأنها صرخة في واد ،أو نفخة في رماد.
لقد سجل التاريخ السلمي ،مواقف مئات الفراد التي نادت بالصلح ،ولكن
جهودها لم تؤد إلى التغيير المنشود ،إذن ليست القضية إذن موقف فرد أو رهط أو
جمـع قليـل أو تجمـع هزيـل ،يقدم نصـيحة جريئة ،فيهان أو يضايـق أو يسـتشهد،
وتستمر عجلة سلطة الجور والستبداد ،في مزيد من الفساد.
والذي يتأمل الجهود الخيرة ،عبر التاريخ السلمي ،يمكن أن يستنبط أسباب
إخفاقها:
1ـ أن ها جهود فرد ية ،وجهود الفراد قد ت ستطيع أن تتحدى التيار مرة أو
مرت ين ،ولكن ها ل ت ستطيع أن ت ستمر ،فضلً عن أن تغ ير مجرى الن هر ،إذا و قف
الناس حولها يتفرجون ،واكتفوا بالتأييد الصامت الساكن.
2ـ أن ها ل تدرك أن الجماه ير يؤيدون عاط فة ل عمل ،والف ساد لن ي خف،
مهمـا صـلى الناس على جنازة المجاهـد المدنـي والمصـلح السـياسي الجتماعـي
بمئات اللوف ،ومهمـا قبّلوا جـبينه كلمـا لقوه ،ومهمـا احتشدوا لزيارتـه وسـماع
كلمه ،ومهما أحيوا الليل بالصلوات والدعاء له في القنوت.
3ـ هذه ت عبيرات طي بة وجدان ية محمودة ،ولكن ها ردود ف عل وقت ية ،وغفلة
عـن السـلوب الشرعـي لمقاومـة الجور والفسـاد لنهـا غيـر عقلنيـة ول عمليـة
حركيـة ،وهـي تندرج فـي خداع النفـس بإنكار المنكـر بالقلب ،واسـتسلم الجسـد
والروح لقوى الفسـاد ،وعندمـا ل تكون جهود الفراد ،مدعومـة بأعوان الحـق،
تضيع كلمة الحق عبر الرياح.
4ــ ولن ها جهود الصـلح في الغلب تت جه ن حو الحا كم الفرد ،فتجاب هه
46
بشجا عة وتضح ية ،ولكن ها قد ت ستفزه وت ستثير خو فه وغض به معا ،فيزداد ظلما
وبطشا ،وتزداد قوى الصلح ذلً وتهميشا.
لن جهود ال صلح ،لم تبت كر ال سلوب العملي ل صلح ال سلطة ،عبر إقا مة
التجمعات الهل ية المدن ية ،المعن ية بالشأن العام ،كهيئات ال مر بالمعروف والن هي
عن المن كر ،فى ش قي الشري عة المد ني والرو حي م عا .وجمعيات حقوق الن سان،
وروابــط العلماء ،والجمعيات المعنيــة بشأن خاص ،يخدم تلقائيــا الشأن العام،
كنقابات أ هل الم هن ،وجمعيات العمال وجمعيات الفلح ين والتجار والعاطليـن عـن
العمـل ،ولم تتجـه إلى الصـلح السـتراتيجي ،مثـل هذه المور تمتاز بمـا هـو
أساسي ،الذي يؤدي تغييره إلى تغيير مؤسسي في الحياة السياسية والجتماعية،
5ــ إن مـن أهـم أسـباب الخفاق ،النظرة التقليديـة للرأي العام ،فقـد درج
كث ير من أ هل العلم ،على ت صوير قوة الرأي العام ،بأن هم ه مج رعاع ،يضرون إذا
اجتمعوا ،وينفعون إذا تفرقوا ،فانفصـل الجمهور الصـالح عـن القلة المصـلحة،
و صاروا يؤيدو ها بالقلوب ،ساكتين ساكنين ،و هم بأيدي هم يؤيدون البا طل ،بل إن
كثيرا من هم يدخلون في إطار أعوان الظل مة .وكث ير من هم من الشياط ين الخرس،
وكثير آخر ل يختلف عن الظلمة في نوع الظلم ،بل في الدرجة ،فقادة الظلم في
الدرك العلى وأولئك في الدرك السفل.
][34
ب – أهمية الرأي العام في السلم:
وتحقير الشعب نظرية ،ل أصل لها في الشريعة ،فالمصلح إذا لم يكن لديه
ر هط يعي نه ويحم يه ،لضاع في وادي الن سيان ،وكذلك كان ال نبي صلى ال عل يه
لرجمناك وقد
وسلم ،لول رهط بني هاشم ،وكذلك شعيب لول عصبيته ولول رهطك
أشار الحد يث الشر يف إلى صعوبة مه مة الم صلحين الذ ين ل يجدون أعوانا على
الخير ،لقد أبعدت عامة الناس عن خطاب الصلح ،فتمسكوا بالتقاليد ،وغفلوا عن
مقاصـد الشريعـة ،واسـتسلموا لكـل طاغيـة ،فصـاروا أداة فـي يـد الحاكـم الجائر،
يحارب بهـم كـل إصـلح ،ويشكـل رأيهـم حسـب هواه ،وذلك أمـر أدى إلى اغتيال
المجتمـع ،ودمار البلد وهلك العباد ،وغلبـة قوى السـتعمار ،وأفضـى بالدول
والحضارات إلى الزوال.
الرأي العام :ثلثة أنوع :
والرأي العام الخامـل :هـو الرعاع الذي يسـتمد الطغاة مـن صـمته قوة،
فيضربون دعاة القسط والشورى.
النوع الهوج :وهو متحرك من دون تنظ يم ،من دون ا ستراتيجبة ،تعبيرات
ومواقـف آنيـة ،لم تتأمـل الخريطـة قبـل ركوب الراحلة ،ولم تقدر مسـافة السـفر
47
ومشقته.
الراي العام الواعـي المتكتـل ،وهوالواعـي بالمفاهيـم ،المتكتـل فـي تنظيـم أو
شبه تنظيم ،فهذا كما قال ( ميرابو ) هو الضمان النهائي ،ضد استبداد كل حاكم (
النظمة السياسية /يحيى الجمل .) 123 :
49
50
][36
المقالة العاشرة
نموذج الفقيه في العصر الموي:
مصلح سياسي
53
المرء فيهـا ينتفـض كالليـث الهصـور ،إذا انتقـص مـن رزقـه الحكومـي الشهري أو
ماله ،دينار أو ر ،أو ضاع له مقدار عقال ،وإذا رأى الفســـاد العام ،همـــس:
الشكوى إلى ال وقبع مدّعيا أنه أنكر بقلبه.
ومن أجل ذلك نرى كثيرا من الفقهاء ،أقل من غيرهم من المثقفين والعلماء
وعامة الناس ،حرصا على الصلح المدني ،ووعيا بأولويته وأهميته ،ولذلك كانوا
أ قل إدراكا لهم ية قول كل مة ووق فة ال حق في المور العا مة ،وأ قل وعيا ومعر فة
بالواقع ونوازله وأحداثه ،يعانون من بطء حيوية في مواكبة الحياة المدنية .بل إنك
تجـد بعـض الفقهاء مركزا فـى صـلح الميـر على اعفاء لحيتـه ،ول يهمـه إل أن
يعفى المير لحيته ،أما أن يحلق المير لحية المة ،ويفرط فى مصالحها ،فباب
الضرورة له مفتوح على مصراعيه.
يا أمة ضحكت من جهلها المم أغاية الدين أن تحفوا شورابكم ×
إن مـن يقرأ تاريـخ المسـلمين الحديـث ،يدرك حقيقـة مهمـة فـي هذا المجال،
وهـي كثرة الذيـن قالوا كلمـة الحـق أمام السـلطان الجائر ،مـن مـن ينعتهـم الفقهاء
والمتفقه ين بالليبرال ية أو العلمان ية ،من الدباء والمثقف ين وال صحفيين ،والعامل ين
فـي المسـرح والتمثيـل ،بـل إن عدد الذيـن عانوا السـجن وذاقوا الجوع والذى مـن
العامل ين في ال صحافة وحد ها ،في سبيل حر ية الت عبير والرأي والجتماع والتج مع
ال سامية أك ثر من عدد الفقهاء .وهذا يش ير إلى أن الفقهاء ،في سلوكهم ومواقف هم
– ك ما في مؤلفات هم ومواعظ هم – ل يدركون أهم ية بناء الدولة الشور ية العادلة،
ولذلك لم يثمنوا أهميـة الدفاع عـن حقوق الشعـب وحرياتـه الشرعيـة ،ولم يثمنوا
أولوية الدفاع عن العدالة الجتماعية .وسبب ذلك خلل فى جذور الفكر السلمي فى
صياغته العباسية ،أفضت فى أسبابه ونتائجه فى (كتاب:من قص جناحي السلم؟).
][37
ب – الغافلون عن أولوية الصلح السياسي :لحوم
مسمومة أم قلوب مسمومة؟
ل بدّ من هنا من تذكير الفقهاء والمتفقهين وطلب العلم الديني الذين همشوا
ش طر الشري عة المد ني ،ول كن تذك ير هذه الطائ فة بواجباتها ،غا ية صعبة وو سائلها
محفوفة بالخطورة ،لن كثيرا من فئات الناس تخلط بين علماء الدين والدين نفسه،
فتعتبر نقد الشخاص والمذاهب نقدا للدين ،وتعتبر كل محاولة لتذكير علماء الدين
م ما أخلّوا به من أ صول الد ين أو فرو عه كراه ية للد ين نف سه ،وتع تبر أن لحوم
الفقهاء م سمومة ،وكأن هم ب شر مقد سون ل ينطقون عن الهوى ول يخطئون ،مع
أنهـم فئات عديدة ،فيهـم مـن لحومهـم مسـمومة ومنهـم غافلون ومنهـم جاهلون
54
ومن هم يائ سون ومن هم ذوو قلوب م سمومة هم المداهنون والمخادعون .ك ما حاول
الكاتب التفصيل في مقدمة كتيب (تجديد مناهج تعليم الدين 1411هـ ( 1991م).
وعلى كل حال فإن احترام الم سلمين وا جب في الشري عة ،ول سيما الفقهاء
والقراء العامليـن ،فتكريمهـم تكريـم للشريعـة ،فليحذر المتحمسـون للصـلح مـن
الوقوع في أعراض حملة الشريعة ،من العلماء الذين يظهر عليهم العمل.
لكـن ومـن الخطـأ الشائع تقديسـهم واعتبار نقدهـم طعنا فـي أولياء ال ،وقـد
يت صور ب عض الناس أن الفقهاء هم أولياء ال ،ول ية ال هي معر فة ما أنزل ال
من الشريعة ،والعمل بها وحض الناس عليها.
على كل حال فإن الفقهاء الغافلين عن أن العدالة والشورى من أصول الدين
قوم عملوا بما أدى إليه اجتهادهم وعلمهم وفهمهم ،وتجربتهم وخبرتهم في الحياة،
وبمـا رأوا أ نه حدود ا ستطاعتهم ،والتماس العذار الشرع ية لكـل م سلم ول سيما
العلماء سـنة حميدة ،وحمـل النسـان على أحسـن الظنون أدب شرعـي .الحترام
والتكر يم وح سن ال ظن ب هم محمود ،ول يس الفقهاء المعا صرون وحد هم م سؤولين
عـن الزمـة الحضاريـة الراهنـة ،فهـي أزمـة تراكمـت رمال كثبانهـا عـبر الجيال،
وتشابكت عقدها عبر القرون.
ولكـن المـر المذموم هـو تصـحيح منهجهـم ومنحهـم قداسـة ،واعتقاد بأنـه
يدركون كل شيء في الدين ،فشطر الشريعة المدني ،وما يتصل به من بناء الدولة
الشوريـة العادلة ،يحتاج إلى اجتهاد عام ،لنـه مـن الشؤون العامـة .وأكثـر الفقهاء
عـبر العصـور الذيـن ركزوا على شطـر الشريعـة الروحـي ،هـم أهـل اجتهاد خاص
بالشطر الروحي في مجاله ،ولكنهم ليسوا أهل اجتهاد في شطر السلم المدني.
و من المف يد التل طف في تذكير هم ب ما ي جب علي هم ،وت نبيههم إلى ما يخ فى،
ولفـت أنظارهـم إلى الوقائع والنوازل ،التـي قـد ل يحسـنون إدراكهـا ،لنشغالهـم
بالتدر يس أو التأل يف ،الذي قد يكون من صوارفهم عن ف هم المور المدن ية ،ك ما
أشار ابـن خلدون ،وينبغـي أن يناقشوا بالدلة الشرعيـة ،ومحاولة كسـبهم لمسـيرة
الصلح الديني عامة والمدني خاصة ،واستثمار مالهم من أسهم شعبية وحكومية.
أمـا كسـر هيبتهـم واسـتثارتهم وسـوء مخاطبتهـم ،فتلك أمور محظورة فـي
الشريعة والطبيعة ،فل يجوز أن يكلف المرء باعتقاد أمر لم يصل إليه علمه وفهمه
واجتهاده وخبرته واستطاعته ،والنسان أيا كان فقيها أو عالما ،أو عاديا أو عاميا،
إذا اسـتثير وأهيـن ،قـد تدفعـه الحميـة عـن النفـس والهوى ،إلى العناد فـي رفـض
الصلح ،والتعصب في استمرار الوقوع فى مستنقع الواقع.
ونتي جة هذا ال ستفزاز خ سارة كبيرة لم سيرة ال صلح ال سياسي ،فضل عن
الجهاد ف يه ،ح يث ي صبح فر يق غ ير قل يل من أ هل العلم والف ضل من مناه ضا أ هل
الصلح السياسي ،فكيف يتم للمة صلح سياسي إذا كان أعداء الصلح فيها ،هم
55
أولو الفقـه ،الذيـن أقاموا شطـر الشريعـة الروحـي ،وجذبوا الناس الى حقلهـم
المغناطيسي ،بما لهم من تجسد وإخلص وصدق نية .ولم يدرك الناس أنهم كـ "
المقتسـمين الذيـن جعلوا القرآن عضديـن " عندمـا كسـروا شطـر الشريعـة المدنـي:
وعند ذلك يصبح دعاة الصلح المدني والصلح الروحي فريقين يختصمان ،فرحم
ال المير محمد بن إسماعيل الصنعاني إذ يقول:
متى ينصر السلم من ما أصابه × إذا كـان مـن يرجـى يخـاف ويحذر
][38
ج – اشتراط ريادة الفقهاء الصلح المدني
والسياسي جهل بالشريعة:
إن كثيرا من عا مة الناس بل و من المتعلم ين والمثقف ين ،ل يتحركون لنكار
منكر ،ول لقامة معروف ،إل إذا تقدمهم أحد الفقهاء ،فإن سكت سكتوا ،وإن نطق
نطقوا.
ومـن أخطـر المور ،أن يظـن الناس أن قول الحـق خاص بقيادة فقيـه سـواء
أكان المنكـر فـي مجال شعائر المناسـك أم فـي مجال شعائر المدنيـة ،فإن أحجـم
أحجموا ،وإن أقدم أقدموا.
وكـم كلمات مضيئة ومواقـف نابضـة قام بهـا رجال ليسـوا الفقهاء ول مـن
القراء ،لنهـم ملكوا البصـيرة الشجاعـة والخلص والفقـه الكافـي ،وإن لم يملكوا
الف قه الوا في ،وأذ كر من ها أن أ حد العا مة في إحدى بلدان ن جد خلل الن صف الول
من القرن الرابع عشر ،استمع إلى الخطيب وهو يدعو ،فعندما قال الخطيب :اللهم
العـن الظلمـة ،قال العامـي :أل تسـمع يـا فلن؟ (وسـمى أميـر القليـم) وعندمـا قال
الخطيب :وأعوان الظلمة قال الرجل :أل تسمع يا فلن؟ (وسمى مساعد المير)!!
وقصر قول كلمة الحق ،أو توقع إعلنها على لسان فقيه ،يدل على أمر حسن
هو ثقة المسلمين بالفقهاء ،ولكن الناس لم يدركوا أن الفقهاء ليس فى سلوكهم من
( تقصير ) من حملة المانة ،ولكن قصور عن التوازن ،وهذا القصور أصابهم في
الصميم.
إن منهاج التعليـم الدينـي منـذ العصـر العباسـي يعانـي مـن قلة نشاط ،وبطـء
ل في الحركة،حيوية ،وقصر حركة الجهاد على قيادة رجال هذا المنهاج ،يورث شل ً
وخللً في التدبير .ولكنه من جانب آخر من مساوئ العادات الجتماعية ،التي جرى
الناس فيها على الركود والجمود ،حتى حمّلوا الفقهاء مسؤولياتهم ،ليريحوا أنفسهم
مـن عناء المجاهدة والمصـابرة ،ويحصـروا التفكيـر والمبادرة ،فـي مجال المـر
بالمعروف والنهي عن المنكر بالفقهاء ،وكأن هذا الجهاد المدني خاص بالفقهاء من
كبار وصغار ،أو بمن ينتصب للتدريس في مسجد أو يتخصص في حقل من حقول
56
الشريعة الخاصة ،فيحمّلون فقهاءهم كل همومهم وهم قاعدون.
وهذا السـلوك جهـل بالشريعـة ،بينـه المبعوث لنشـر الشريعـة ،فلم يشترط
الرسـول صـلى ال عليـه وسـلم أن يكون قائل كلمـة الحـق والخيـر والعدل ،فقيها
مجتهدا ،أو عالما أو مفكرا أو اسـتاذا جامعيـا ،أو طالب علم مثقفا ،لن قول كلمـة
الحق واجب عام ،على الخاصة والعامة ،كل بحسب حاله ،والشريعة لم تشترط أن
يكون المجاهد والمر بالمعروف عالما ،وإنما اشترطت أن يكون المر بالخير على
بصيرة من ما يأمر به .كما قال تعالى :قل هذه سبيلي أدعو إلى ال على بصيرة.
المهم أن يكون النسان البصيرة .
والبصـيرة فـي أمور السـتبداد والظلم ،ليسـت هلل يتراءاه الناس على
رؤوس الجبال ،بل هي شمس مشرقة في كل ميدان .ولو خفيت تفصيلت بعض
أركان الشري عة الخا صة ،كشعائر ال حج ودقائق اليمان بالغ يب ل ما خف يت الخرى،
كال صلة وال صيام ،ولو خف يت ب عض شعائر ال سلم المدن ية ،كالموار يث ل ما خف يت
الركان ال كبرى ،فأركان الد ين المدن ية ال كبرى كالعدالة والزكاة والدارة والقت صاد
والشورى ليست أمورا ملتب سة ،يحتاج ال مر فيها إلى علم شرعي دقيق ،ولذلك لم
تشترط النصـوص الشرعيـة أن يكون المحتسـب عالما أو فقيها ،إنمـا اشترطـت أن
يكون عارفا بما يأمر به وينهى عنه.
إنما المر المحصور التعمق فيه بالفقهاء شق الشريعة الروحي :وأمور الغيب
والمناسك .وكل فقيه اتسع إدراكه إلى معرفة شؤون الدولة العادلة الشورية ،يكون
الفقهاء من أهل الجتهاد العام ،جديرا بلقب العالم الراسخ كما نبه القرطبي ،وجديرا
بوراثة النبياء ،في الفتاء والتعاليم والقضاء وريادة العمل العام .على كل حال هذا
نمـط الفقهاء المقتصـر على شـق العقيدة الروحـي ،ليـس هـو الفقيـه فـى المعجـم
القرآنـي ،فالقرآن عندمـا تحدث عـن الفقـه لم يحصـره بالمعنـى الصـطلحي الذى
شاع بعد نزول القرآن ،والفقه فى القرآن ،إنما بمعنى العقل والراي الثاقب وحسن
التفكير والتدبير(كما شرحت في كتاب البرهان).
][39
د – من هم ورثة النبياء؟
العلماء الراسـخون هـم الذيـن يعرفون اصـول قوة المـة وصـفاء الملة ،ول
يكون ذلك بالغفلة عن ال سياسة ،ل كن لورا ثة ال نبياء مدلول آ خر يخ تص بالعلماء
العامل ين من أ هل الجتهاد العام العارف ين بالحياة العا مة الم صلحين ف هم المعنيون
بقول الرسول صلى ال عليه وسلم «العلماء ورثة النبياء» فوراثة النبياء ل تكون
إل بالتاسي بهم.
57
والنـبياء أعمالهـم أكثـر مـن أقوالهـم ،النـبياء قدموا التوحيـد محورا للعدل
والشورى فمن ظن وراثة النبياء في تأليف الكتب وإلقاء المحاضرات ،وقبض ثمن
ذلك شهرة وصـيتا وتكريما فقـد أبعـد النجفـة والجهاد بالنفـس والنفيـس فـي سـبيل
إ صلح المجت مع ينب غي أن يوا كب الموا عظ النفي سة .وعلى كل حال فإن الع مل في
مجال ال مر بالمعروف والن هي عن المن كر ،ل يخ تص بريادة فق يه ول مبادر ته ول
قيادته .فعلى كل فرد واجبه ،ولكل فضله وريادته.
أ جل! من المتو قع أن يكون من يع تبرون أنف سهم ور ثة ال نبياء أولى الناس
بالدفاع عن الميراث ،ولكن قصر حركة الجهاد المدني على دفاعهم ،قول بغير دليل،
ل سيما والجهاد حر كة وو عي وموا هب قياد ية عمل ية ،قد ل تتوا فر فى كل عالم.
قيادة الجهاد المدني والسياسي وريادته ،إنما يقوم بها ( العرفاء ) الذين لهم بروز
اجتماعـي ،لنهـم يجسـدون اهتمامات الجماعات ،فتقدمهـم وتصـدرهم .فتكليـف كـل
الفقهاء بهذا العبء أمر غير صحيح ،وكذلك كان صحابة رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،فيهم حفاظ للقرآن وقراء ،وفيهم من هو أكثر ريادة ،وإن لم يكن أكثر حفظا
للقرآن ،كأبى بكر وعمر.
ولذلك ينبغـي الحذر مـن اعتبار ربـط قافلة الصـلح المدنـي والسـياسي،
كمقطورة ،بعر بة فق يه ،من من ركزوا ال سلم في جوا نب المنا سك وهمشوا جا نب
الق يم المدن ية ،والحذر من جعل ها محددة بطاقت هم ،ف كل م سلم ق صد و جه ال بعمله،
وراعى الغايات والوسائل الشرعية ،مجاهد مدني بكلمة أو وقفة ،وإن قل علمه ،إذا
حسن عمله.
بل ينب غي الحذر من الكتفاء بفتاوى علماء المن هج الدي ني المفرط (الذي ركّز
الدين في المناسك وأعاد إنتاج الصياغة العباسية للعقيدة وللثقافة السلمية) في مجال
ل عن ق صر الصلح على الق يم المدن ية ول سيما ال سياسية ،فذلك منزلق خط ير ،فض ً
ريادت هم .ولو قرأت ك تب هؤلء الغافل ين وفق نا ال وإيا هم لعر فت أن هم فى واد من
الغفلة سـحيق ،وأن عزة المـة وقوتهـا فـى عاليـة الهضاب .لن إدراك قيـم السـلم
المدنيـة ،أمـر ل تنحصـر معرفتـه بالفقيـه المتخصـص فـي كليـة أو جامعـة ،فالحكام
الشرع ية الضرور ية ،روح ية ومدن ية يدرك ها كث ير من الناس ،لن ها من ما يعلم من
الد ين بالعادة والبدا هة ،ل يحتاج في ها الم سلم ،الذي ن شأ في بيئة إ سلمية ،إلى من
يفتح عينيه ويعمل بيديه إلى " أولى اليدي والبصار".
][40
58
هـ – قيم السلم المدنيةوالسياسية مدركة بالفطرة
والخبرة:
إن ق يم ال سلم المدن ية (عا مة)وال سياسية خا صة ،أو ضح من الق يم الروح ية
وأبين ،إذ يدرك أكثرها وأهمها النسان ،سواء أكان مسلما أم غير مسلم ،لنها من
المور البديهيـة الضروريـة ،التـي ل تحتاج إلى علم واسـتدلل .فقـد جرت العقول
السليمة بمقتضى الفطرة الخبرة ،في المم المدنية ،التي أشادت الحضارات والدول
الشامخـة ،على إدراك أن العدالة والشورى شرط فـي أي حكومـة ،وأن التجمعات
ـع تظاهرات ـة المجتمـ ـة مبدأ الشورى ،وأن حيويـ ـي ضمانـ ـة هــة المدنيـ
الهليـ
واعتصامات وبيانات هي ضمان حقوق الشعب وحرياته ،وأن جو الحرية السامية،
هـو المناخ التـي تنمـو فيـه المجتمعات ،هذه أمور عرفتهـا كـل أمـة وملة ودولة،
مسلمة وغير مسلمة .وينبغي للفقهاء أن ل يكونوا في آخر القافلة.
كمـا أجمعـت المـم قديمهـا وحديثهـا مسـلمها وكافرهـا على اللتزام بأمهات
الفضائل ،فأجم عت على ف ضل التوا ضع والن صاف ،وعلى ف ضل ال صدق والما نة،
وعلى ف ضل الع فة وقد سية الزواج ،وعلى ف ضل الكفا ية والتخ صص ،وعلى ف ضل
ال جد والدأب وال صبر ،وعلى ف ضل التشاور والحوار ،وف ضل التك تل والتعاون ل ما
ترى لهـا مـن العواقـب الحميدة ،وجرت أيضا على كره الظلم والجحاف ،وسـوء
ـكرات ـا واللواط والمسـ ـح الزنـ
ـح الجور والطغيان ،وقبـ ـتكبار ،وقبـ
الثرة والسـ
والمخدرات لما ترى لها من العواقب الذميمة.
والواقع أن الحالة إلى أهل العلم بالشريعة ،في كل قضية خفية أو جلية ،أمر
غيـر مشروع ،إن عالم الشريعـة إنمـا ينبغـي أن يسـأل عـن المور الخفيـة التـي
يحسـنها ،رغـم أن قوله سـواء أكان مفتيا حكوميا أو شعـبيا ،ليـس نصـا ل يجوز
الخروج عليه.
ثم إن الوثوق بقول العالم مستمد من قوة دليله ،ل من قيمة شخصه.
ثم إن الصياغة العباسية للفكر ،وإن صلحت لبيئات غابرة صارت من أسباب
الجمود فـي بيئاتنـا المعاصـرة ،فيندر أن ترى العالم الشرعـي ،الذي يدرك كليات
الشريعة ومقاصدها في المجال المدني والسياسي.
ولذلك صار من المالوف ع ند الفق يه التقليدي ،أن يلت مس المخارج والح يل،
ل تبرير ظلم مبين ،أو ارتشاء فظ يع ،أو إهمال في شؤون ال مة مر يع ،ورب ما برر
السكوت عن إنكار الظلم ،بدفع المفاسد المقدم على جلب المصالح ،ولكن ليس لديه
مسطرة تثبت أن كم الفساد المتوقع اكثر من الصلح المنتظر ،وربما برر السكوت
عن الفساد بأن الفساد موجود في كل الدول ،فيكون بذلك من " حزب التبرير " .
والخل صة أ نه لم يرد دل يل في مح كم الشري عة ،ول في حقائق علوم الن سان
59
والطبيعة ينص على أن قول كلمة الحق والعدل والخير خاص بعلماء الدين ،ول أنه
محصور بقيادتهم ،بل ولم يرد في الشريعة ما يقصر الصلح على اذن طائفة من
المفت ين ،واشتراط ذلك كهنوت ن صراني ،ت سرب إلى ال مة ال سلمية ،م نذ الع صر
الوسيط ،في عهود الجمود والركود.
إن ال سبحانه وتعالي ،لم يجعل حفظ دينه وشرعه ،للمراء ول للفقهاء ،
إنمـا جعله للمـة ،ولذلك جاء الخطاب القرآنـي :يـا أيهـا الذيـن آمنوا ،فـى الشئون
عامة والمدنية خاصة ،فى شئون الحرب والسلم ،وقد جاء ذلك فى أكثر من مئة
موضع فى كتاب ال.
ولذلك نص المام ابن تيمية ،على أن المة هي الحفيظة على الشريعة ،بل
إن القرآن حذر المة ،من انحراف الفقهاء والمراء ،ولذلك عقد الشيخ محمد بن
ع بد الوهاب رح مه ال ،ف صل فى كتاب الوح يد " باب من أطاع المراء والفقهاء
فى غير طاعة ال ،فقد اتخذهم أربابا من دون ال " ،ووضح ذلك المفسرون ،فى
تف سير آ ية التو بة :اتخذوا أحبار هم ورهبان هم أربا با من دون ال ( ان ظر تف سير
القرطبي والمنار) .
60
][41
64
][44
69
][48
الوهم الخامس :وأكبر من ذلك أنهم ينظرون إلى الحاكم الجائر ،نظرة أعلى
من نظرتهم إلى الخليفة الراشد ،وكأن له حق التحليل والتحريم ،لقد كان السلطان
المتغلب فـي المصـادر الشرعيـة ،حاكما مسـتبدا جائرا يجـب أمره ونهيـه ،ووعظـه
وزجره ،وأطره وق صره ،ثم صار هو الذي يأ مر وين هي المجتهد ين والمجاهد ين،
وهـو الذي ينصـح الناصـحين والواعظيـن ،وصـار هـو الذي يحدد مجال المـر
بالمعروف والنهي عن المنكر ،وهو الذي يأمر بالتوقيف والسجن والتعذيب ،وكأنهم
اعتبروا ولي أمر على المة ،ل ولي أمر للمة ،وربطت الحدود بموافقة السلطان
أيضا ،وأصـبحت عبارة (ولي المـر أدرى بالمصـلحة) وعبارة (ولي المـر يحسـم
التنازع عند الخلف) أصلً فقهيا مرعيا ،على مستوى القضاء والتشريع.
ومن يتأملها بعين الشريعة ،يجدها بدعة صرحية تؤدي عند التطبيق إلى أن
يكون (ال سلطان) ظلً ل في الرض ،ل يحا سبه إل الذي وله ،بل صار من ح يث
72
الواقع المعيش ،مصدرا من مصادر التشريع ،يحلّل ويحرم ،ويبرئ ويجرم ،ويقضي
ويفتـي ،حتـى صـار يقصـر أهـل الدعوة والصـلح عـن قولة الحـق قصـرا ،وصـار
يأطرهم على السكوت والتقية والمجاراة أطرا .وأمسك بيديه أعنة السلطات الثلث:
تنفيذ ية وتشريع ية وقضائ ية ،فاع تبرته ثقافت نا القضائ ية في صياغتها العبا سية هو
القاضـي ،وإنمـا القضاة نوابـه ،فأفسـد فـي الرض وعاث ،ترى أهذا هـو القانون
الدستوري في الشريعة؟
وكان الحا كم في الشري عة ال سماوية ،و في الد ساتير الرض ية ،إن ما هو نائب
عن المة .يجوز للمة التي أنابته ،أن تأمره وتنهاه ،وتوجهه وتنبهه ،ونص بعض
الفقهاء الرا سخين ،كا بن عط ية الندل سي ،على أن شورى ال مة شرط في الحا كم،
فإذا لم يشاور وجب عزله ،إذ خرج عن مقتضى النيابة.
وجرت العادة ،بأن للموكل حق توجيه موكله .فصار الحاكم هو الوكيل الذي
يتصـرف فـي شؤون موكله ،وصـار النائب الذي يتصـرف بشؤون مـن أنابـه ،وكأن
المة سفيهة يجب الحجر عليها ،أو طالب صغير ل ب ّد له من ولي رشيد.
بمثـل فقـه المداهنـة ضاعـت الندلس ،وأباح التتار بيضـة السـلم ،ودنـس
النصـارى بيـت المقدس ،وألقـت خيول المسـتعمرين روثهـا فـي المسـاجد ،وديسـت
المصـاحف ،وهجـم السـتعمار وعاث ،وضاعـت التربيـة ،وفسـدت الخلق ،وسـاد
النحلل والضياع ،وأهملت الزراعة وال صناعة وضاع القت صاد وانت شر الف ساد في
البلد ،وهمش دور المناسك.
ول زال بعـض المنتسـبين للديـن ،يشيعون فقـه المداهنـة ،الذي راياتـه مـن
مح كم ن صوص ،ودواخله هروب ونكوص كأض عف اليمان والنكار بالقلب ،والتق ية
والنعزال ،وسـد الذرائع والصـبر على جور الحكام ،مـا داموا يصـلون ،واعتبار
منظومة فقه النكوص من الحكمة!! واعتبار إنكار المنكرات السياسية من الفتنة.
فالقول باشتراط إذن السلطان قول بغير دليل ،فالمر والذن ،والناهي والمانع
في كل أ مر ،إن ما ي ستمد إذ نه من الد ستور الذي شر عه ال وأو كل لل مة مه مة
تنفيذه ،فال مة هي المخولة بتنف يذ أحكام الشري عة ،ف هي ول ية أ مر نف سها ،ول يس
ل حد من المراء أو الفقهاء أن ين هى عن ما نص الشارع على ال مر به أو رأ ته
المـة مـن مصـالحها ،ول سـيما أن المـر بالمعروف والنهـي عـن المنكـر ،يفيـد
الوجوب ،لن كل أمـر ون هي فى القرآن وال سنة ،ل يس هناك قري نة ت صرفه عـن
الوجوب الى الباحة والستحباب فإنما هو للوجوب.
الوهـم السـادس :ينسـى أولئك الواهمون ،القاعدة الشرعيـة القطعيـة ،التـي
أسس عليها ال صوليون –وخل صتها :-إن ال مر الذي تجب طاعته هو ال ،أما
العبد فليس له ولية على عبد مثله ،لنه مملوك مثله ،فكلهما عبد ال من يجب
عليهما أن يطيعا المر العلى.
73
وال مر العلى ب عد ال ،هم أ هل ال حل والع قد من وجوه الناس ،وأ صحاب
الرأي وال خبرة ،مِن مَن ي سعون في الم صالح العا مة ،ويكت سبون ث قة ال مة ،في
رأيهـم وخـبرتهم ،وحماسـتهم وإخلصـهم ،ونظافـة جيوبهـم ،وتنتخبهـم المـة
وتقدمهـم للحديـث باسـمها ،فهـم يقومون بمـا يحتاج مـن الراء إلى بلورة ،وهـم
أخيرا للتعـبير عـن مصـالح المـة كالقنطرة أي أنهـم يجسـدون أمريـن :الول:
مرجعيتهـا الثانـي :ويجسـدون أيضـا إجماعهـا كمـا صـرح عديـد مـن المفسـرين
الراسـخون (كالفخـر الرازي والنيسـابوري ومحمـد عبده) فـي تفسـير آيتـي أولي
المر في سورة النساء ،وكما يدل عليه ظاهر قول ابن تيمية.
فمن نفّذ خلف أمر ال أو أصدر أمرا من دون شورى المة فل طاعة له،
لنه أخلّ بمبدأ التوكيل والتخويل ،فل تجوز طاعة الحاكم في قانون لم يصدر عن
رأي ال مة ،ل نه ع صت ال الذي حدد مرجع ية الطا عة بأمر ين :مح كم الشري عة
ورأي أ هل ال خبرة والن صح والع قل الجدير ين برت بة أ هل ال حل والع قد ،ك ما قال
عليه الصلة والسلم «ل طاعة لمخلوق في معصية الخالق».
واشتراط إذن السـلطان ،إنمـا هـو مـن تحكيـم الرأي والهوى فـي شرع ال،
فمن منع الناس ،بل -كما قال المام الشاطبي «من منع نفسه من تناول ما أحل
ال ،مـن غيـر عذر شرعـي ،فهـو خارج عـن سـنة النـبي صـلى ال عليـه وسـلم،
والعامل بغير السنة تدينا هو المبتدع بعينه» (العتصام.)59/1 :
ومن احتكم إلى رأيه المجرد من الدليل الشرعي ،فقد ابتدع ،كما قال المام
الشاطبي أيضا «المبتدع قد نزل نفسه منزلة المضاهي للشارع ،لن الشارع وضع
الشرائع ،وألزم الخلق الجري على سننها ،وصار هو المتفرد بذلك ،لنه حكم بين
الخلق ،فـي مـا كانوا فيـه يختلفون ،وإن ل فلو كان الشرع مـن مدركات الخلق ،لم
تنزل الشرائع ،ولم يبـق الخلف بيـن الناس ،ول احتيـج إلى بعـث الرسـل عليهـم
السلم» (العتصام.)66/1 :
][50
ج – كيف يستأذن السلطان في الحسبة عليه؟
ثم كيف يشترط للمر بالخير ،والنهي عن الشر إذن السلطة التنفيذية ،وهي
الجهـة التـي صـدر منهـا منكـر الجور والهوى ،والغفلة والخطـأ ،أوالبدعـة والغلط،
فكيف يمكن إنكار المنكر ،إذا كان ل ب ّد من استئذان الحاكم في النكار عليه نفسه،
كيـف يتـم الحتسـاب فـي المجال الذي سـماه العلماء (المنكرات السـلطانية) ،وكيـف
ين صف ال سلطان النا صحين والم صلحين من نف سه ،أل تكون الم سألة ك ما قال أ بو
الطيب المتنبي:
74
يـا أعدل الخلـق! ،إل في معاملتـي!× فيك الخصـام وأنت الخصم والحكـم!!
ولذلك رد المام الغزالي ح جج فقهاء المداه نة وال تبرير ،فذ كر أن تخ صيص
المـر بالمعروف ،بتفويـض المام تحكـم ل أصـل له ،وتسـاءل «كيـف يكون المـر
محتاجا إلى إذن المام ،وأف ضل درجا ته كل مة حق ع ند إمام جائر ،فإذا جاز الح كم
على المام وهو راغم ،فكيف يحتاج إلى استئذانه» ثم قال« :إذا كان الوالي راضيا
فذاك ،وإن كان ساخطا ف سخطه من كر ،ي جب النكار عل يه ف يه!! فك يف يحتاج إلى
إذنه في النكار عليه» (الحياء.)288/2 :
اكـد ذلك المام النووي فـى شرح صـحيح مسـلم وحكـى الجماع على وجوب
إصلح السلطان وهو راغم فقال :قال إمام الحرمين (الجويني) والدليل على إجماع
المسلمين أن غير الولة ،في الصدر الول والصدر الذي يليه ،كانوا يأمرونهم ]أي
الحكام[ بالمعروف ،وينهون هم عن المن كر ،مع تقر ير الم سلمين إيا هم ]على ذلك[،
وترك توبيخهم على التشاغل بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير ولية»
ومـن يرد أمثلة حيـة لذلك؛ يجدهـا فـي كتاب المجاهـد الشهيـد عبـد العزيـز البدري
( علماء فى مواجهة الحكام ) رحمنا ال وإياه.
75
][51
ـن الفقهاءـم وجدوا كثيرا مـ ـم والناس أيضا معذورون ،لنهـ ـم إن الحاكـثـ
والعلماء والخـبراء والمفكريـن ،يتظاهرون بلباس الخلص والدفاع عـن المصـالح
العامة ،وهم-عفوا أوقصد ،-يخدمون مصالح خاصة أو فئوية ثانوية .وبعض أهل
العلم يقدم الن صائح والفكار ،ال تي تو صله إلى ش خب أثداء البقرة الحلوب ،فينب غي
للمصـلحين توطيـن النفـس على دفـع الثمـن ،بالصـبر على المحـن فـي أنفسـهم أو
أموال هم أو أعراض هم أو راحت هم أول .والحلم والتحلم وال صبر والت صبر على الذى
ثان يا ،ف ما من م صلح إل وات هم بش تى الت هم وبذلك أر شد ال نبيه صلى ال عل يه
وسلم ما يقال لك إل ما قيل للرسل من قبلك .وكما قيل " من ركب طريق الصلح
فقد تصدق على الناس بعرضه".
ثـم إن داعـي الصـلح نفسـه ،ليـس مـبرءا مـن الذاتيـة ،مهمـا حرص على
الموضوعية ،فله عيوب صغرى أو كبرى ،وهنات هينات أو غير هينات ،وهو على
كل حال نب تة فى هذا الح قل ،ول يس بريئا من الزلل ،فى أموره العا مة والخا صة ،
ول يس مع صوما من الخ طأ عند ما ين صح ف قد تكون ف يه عجلة يظن ها حما سة ،و قد
تكون ف يه حدة يظن ها صراحة ،و قد يدف عه التو تر والحباط إلى التق صير في حقوق
مـن حوله مـن أهـل وأصـحاب ،وقـد يكون فيـه نزوع الى الشهرة والتصـدر ،وأكثـر
المتحمسين للصلح ،المعروفين النادر بالخلص ،ل يكاد يسلم من حب الزعامة،
77
ولذلك قال أيوب ال سختياني عن الفقهاء « حب الرئا سة آ خر ما ينزع من رؤوس
الصديقين» .وينبغي للمصلح أن يواصل الحرص على التخلص من هذا الداء المكين
في النفس البشرية،وقد ل يدرك هذه النواقص فيظن أن الناس إزوروا عن الخير،
لنهم ل يريدون الصواب ،ومن أجل ذلك ل بد له من النقد الذاتي ،بأن يسأل من
حوله :ما هي عيوبي على طريقة أبى بكر رضى ال عنه " :رحم ال امرءا أهدى
إلى عيوبي " وما دام يخطئ فليعذر الخطائين.
][52
ب – ل يأس من روح الله:
ول ينبغي لداعية الصلح أن ييأس ،إذا وجد الناس من حوله يهمسون أو
يجاهرون ،ويكيلون له الت هم وي سيئون به الظنون ،بل ينب غي له أن يد فع بال تي
هي أحسن.
ف في المجتمعات المتخل فة ينب غي للمح سنين النشط ين أن يتوقعوا كثيرا من
الذى ،بأ سباب عديدة ،من ها الح سد والمناف سة ،فضلً عن المخال فة والخ صومة،
ولذلك قال ابن تيمية "ما خل جسد من جسد ،فالكريم يكتمه واللئيم يعلنه".
فعلى المصلح أن يتعود الصفح والتغافل ،حتى يقنع الناس بسلمة طويته،
ف قد يع تبرونه مندفعا مغرورا ،أو حاقدا موتورا ،أو مريضا نف سيا ،ي حب ال صراع
والمشاكسة ،أو مجنونا مخبولً.
لن كثيرا مـن الناس ،يفهمون الصـحة النفسـية على غيـر مـا شرع ال،
فيظنونهـا التوافـق مـع القيـم والعراف السـائدة ،ولو كانـت متخلفـة فاسـدة ،وأنهـا
القدرة على اتقان "السـترخاء" ،ول يدرون أن الصـحة النفسـية الحقيقيـة بالمعنـى
الشر عي الموضو عي ،هي الع مل اليجا بي الم ستمر ،وال حض على الن فع والتحذ ير
من الضر ،ذلك أمر غفل عنه كثير من الناس.
وكذلك ل ينب غي للمجا هد ال سلمي المد ني أن ييأس إذا و جد من ذوي القر بى
والصداقة ،أو من غيرهم من يحذره من العواقب ،ومن يعتبره حسن النية ساذجا،
متهورا يلقـي نفسـه فـي المهالك ،متعجلً متسـرعا ،أو غرا ل رأي له ،أو متعصـبا
متزمتا ،أو خياليا مثاليا ،أو عنيدا متصـلبا ،ينطـح برأسـه الصـغير الهـش ،هضبـة
الجبل الصلب ،وليس مهم إذا رددوا رددوا أمامه قول الشاعر:
كناطح صخرة يومـا ليوهنهـا×
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
فالمجا هد ال سلمي ع ند ضامري الضمائر المشغول ين بالنان ية؛ مغا مر أهوج،
كالوعـل الذي ينطـح الصـخرة برأسـه ،فيتحطـم رأسـه ،وتبقـى الصـخرة ،وهذا فـي
78
ميزان التفكير القريب صحيح ،أما في ميزان التفكير البعيد فباطل هراء ،ورحم ال
المام أح مد ،عند ما سمع أن أ حد شهداء الرأي :اح مد بن ن صر الخزا عي في فت نة
خلق القرآن قد خر صريعا فقال :ما أ صلبه و ما أجلده أو كل مة نحو ها ،ولم ي قل:
مسكينٌ ناطح الصخرة فلقى حتفه!!
][53
ج– طريق المصلحين:
ل عـن وينبغـي للمجاهـد المدنـي والسـياسي أن يتذك ّر سـير الصـالحين فض ً
النـبياء والمرسـلين ،ليتذكّـر أن سـلوك المخاطـبين مـن الرؤسـاء والمترفيـن
والمسـتكبرين متشابـه ،رغـم اختلف الزمنـة والمكنـة ،كأنهـم توارثوه كابرا عـن
كابر ،فليعذرهـم وليصـفح عنهـم ،وليدرب نفسـه على التحمـل حتـى يتحمـل وعلى
التحلم ح تى يحلم ،وعلى الت صبر ح تى ي صبر ،وعلى التش جع ح تى يش جع فالتح مل
والحلم وال صبر والشجا عة من الخلق المكت سبة ،ال تي ينال حظ من ها غ ير قل يل،
بالرياضة والتمرين والتجربة.
وليتذكّر أ نه ل يم كن أن ي تم جلب خ ير ول د فع شر ،إل بال صبر والتح مل،
ولذلك قرن ال ال مر بال حق بال صبر فقال تعالى في ما حكاه عن لقمان و هو ي عظ
ابنه :يا بنيّ أقم الصلة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن
ذلك من عزم المور[ لقمان.]17 :
وليتذكّر موا قف ال صالحين وال صابرين ،قال خباب بن الرت ر ضي ال ع نه:
«شكونا إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة،
فقلنا :أل تنتصر لنا؟ أل تدعو لنا؟ فقال :قد كان من قبلكم يؤخذ بالرجل ،فيحفر له
في الرض ،فيج عل في ها ،ثم يؤ تى بالمنشار ،فيو ضع على رأ سه ،فيج عل ن صفين،
ويمشـط بأمشاط الحديـد ،مـا دون لحمـه وعظمـه ،مـا يصـده عـن ديـن ال» (رواه
البخاري).
وليتذكّر صفح ال نبياء والمرسلين ،الذي صوره القرآن الكريم في مواضع
كثيرة ،كقول بعضهم :وما لنا ألّ نتوكّل على ال وقد هدانا سُبُلنا ولنصبرنّ على
ما آذيتمونا وعلى ال فليتوكّل المتوكّلون[ إبراهيم.]12 :
وليتذكّر اليات الكريمة التي أمرت بالصبر وأوصت به كقوله تعالى :يا أيّها
الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتّقوا ال لعلكم تُفلحون[ آل عمران]200 :
وقوله :وبشّر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا ل وإنّا إليه راجعون
* أولئك عليهـم صـلوات مـن ربّهـم ورحمـة وأولئك هـم المهتدون[ البقرة-157 :
.]155
وليتذكّر الحاد يث الشري فة ،كقوله صلى ال عل يه و سلم « :من يرد ال به
79
خيرا يصـب منـه» (رواه البخاري) وقوله« :إن عظـم الجزاء مـع عظـم البلء ،وإن
ال إذا أ حب قوما ابتل هم ،ف من ر ضي فله الر ضا ،و من سخط فله ال سخط» (رواه
الترمذي وابن ماجه).
فل ب ّد للمجاهد من أن يرد السيئة بالحسنة ،والغضب بالحلم ،والعنف بالرفق،
والعدوان بالصـفح ،وأن يحذر مـن السـتفزاز ،الذي يلجئه إلى الدفاع عـن الذات،
والرد العاط في الهائج ،و قد يقوده إلى التطرف ،ويبعده عن ح سن الت صرف ،فيح يد
عن سُنّة العدل والحسان ،وينزع إلى ما ل يليق بذوي العقول الراجحة ،وقد يوقعه
ذلك التعصب في الباطل والهوى.
ولي كن متمثلً بال صالحين وال صديقين ،الذ ين يندر أن ي جد من هم من لم يب تل
ل عن ال نبياء والمر سلين ،فلي صفح وليغ فر ،ولي كن شعاره قولة في ذات ال ،فض ً
أحد النبياء ،حينما ضربه قومه حتى أدموه ،كما ورد في الحديث ،قال عبد ال بن
م سعود ر ضي ال ع نه« :كأ ني أن ظر إلى ر سول ال صلى ال عل يه و سلم ،يح كى
نبيا من النبياء صلوات ال وسلمه عليهم ،ضربه قومه ،فأدموه ،وهو يمسح الدم
عن وجهه ،ويقول :اللهم اغفر لقومي فإنهم ل يعلمون» (رواه البخاري ومسلم).
80
][54
83
][56
ج – صيانة المسلمين من الكفر أولى من دعوة غير
المسلمين إلى السلم:
فليستيقظ الشيوخ والشبان والكهول ،الذين يتوقون إلى الجهاد في سبيل ال،
سـائلين ال أن يمنحهـم الشهادة ،مدركيـن أن مـن مات ولم يغـز ولم يحدث نفسـه
بالغزو ،مات على شعبـة مـن النفاق ،ظانيـن أن الجهاد ل يكون إل فـي أفغانسـتان
والفيل يبين والبو سنة والشيشان ،وأ نه ل يكون إل ضد عدوان الكفار ،وأن ل سبيل
إليه إل بالتدريب على حمل المدفع والرشاش ،وركوب المدرعات والدبابات.
وليدركوا أن نشر ثقافة المجتمع المدني هو اللة المجربة ،التي تحفظ البنيان
الداخلي مـن النهيار ،وأن له الولويـة فـي الجهاد ،لن آثار التهاون بهـا خطيرة،
تسـببت بانهيار المسـلمين ،وضلل كثيـر مـن أفكارهـم ،وفسـاد كثيـر مـن أولدهـم
ون سائهم ،فضلً عن ضياع كث ير من أموال هم ،في محر قة الجور والفجور ،عند ما
صـارت عونا للكفار المسـتعمرين ،يسـتعينون بهـا على حرب المسـلمين ،وعلى
إغوائهـم فـي كـل مكان ،وترك الجهاد المدنـي أدى إلى ذهاب العراض والتعرض
للفتــن والنحراف ،والمراض النفســية والعقليــة ،وشيوع المخدرات ،وتعرض
المسلمين للفقر والجهل والقهر والمرض ،مما جعلهم بيئة صالحة للقيم المبريالية
الغلبة.
ينبغـي البدء بحمايـة المسـلم مـن المبرياليـة والفرنجـة والعلمنـة والهيمنـة
الجنب ية ،ال تي تق ضي على ا ستقلل الذات العرب ية وال سلمية ،ول سيما في مهاد
ال سلم ومراكزه ال كبرى ،فهذه الوظي فة أولى من دعوة غ ير الم سلمين في بلدان
أخرى إلى ال سلم ،حقا ل قد قال الر سول صلى ال عل يه و سلم« :لن يهدي ال بك
رجلً واحدا خ ير لك من ح مر الن عم» ،وهذا تأك يد على ف ضل الدعوة إلى ال سلم.
ولكن لن يحفظ ال بالداعية إسلم بيت أو جماعة خير من أن يهدي به ال كافرا.
فسلمة التدبير مرتبطة بسلمة التفكير.
والرأي كالليل مسود جوانبه × والليل ل ينجلي بإصباح
مراعاة الولويات تجعـل صـيانة البيـت المقام ،أولى مـن الشروع فـي بناء
جد يد ،فلو ظل ب يت ال سلم قويا في مراكزه ال كبرى (الشرق العر بي) ،وا ستمرت
العزة للسلم ،لما أضير مسلم في فلسطين ول في البوسنة ،ول في أفغانستان ول
في كشمير ،ول في الفيليبين ول في الشيشان ،ول في الهند ول في الصين ،ول في
أي مكان في العالم ،ولقدم الم سلمون المتأخرون ،إل سلم ،ب ما لهم من ق يم مدن ية
84
راقية ،كما نشره المسلمون الولون في الشرق القصى.
اليوم فى بلداننا العربية ،صار السلم مهيضا ،وصارت العزة لغير المسلمين،
والذلة والهوان للعرب ،وصرنا كما قال محمود غنيم:
اين اتجهت الى السلم فى بلد × تجده كالصقر مقصوصا جناحاه
لماذا ضعف هذا الصقر؟ لماذا قص جناحاه ،ما جناحاه اللذان حلق بهما فى
الفاق ،وفتح البلد ؟ إنهما العدالة والشورى .ترك الجهاد السياسي السلمي هو
الذي قص الجناحين.
الفهرس
المقالة...........................................................رقم الفقرة
)الرهبانية الجديد1=3(...........................................
)لماذا اعتبر السلم الصلح السياسي السلمي جهادا ؟2=7(..
)جهاد السلم ضد الطغيان وجهاد الحسام ضد العدوان3= 10(....
)كيف صار جهاد السلم بمنزلة جهاد الحسام(باسم رب الغلم!)4= 12(.:
)لماذا كان حامل الكلمة عديل حامل البندقية :المحصول أول5= 16( ..
)السلطان الجائر له وجوه :سياسيً واجتماعي وثقافيً وقضائي6= 20( ..
)النصيحة العلنية هي القاعدة والنصيحة السرية استثناء7=24(..
)الكلمة مشروع إصلحي8= 28(.............................
)سلم الصلح السياسي :أفكار ونخبة ومواقف وتكتل شعبي9=33(..
نموذج الفقيه في العصر الموي مصلح سياسي كيف تحول إلى مؤلف =10
)متنسك36( ........................................................
)الليبراليون وغير الملتزمين طلئع السلم المدني والسياسي11= 41(...
الخلص لوجه ال في الجهاد المدني والسياسي ليس شرط صلح =12
85
)دنيوي بل شرط ثواب أخروي44(.....................................
)إنكار المنكر السياسي هل يحتاج إلى استئذان السلطان13= 48( .....
)التسامح فوق النصاف :اللهم اغفر لقومي فإنهم ل يعلمون14= 51(..
86
87
88