الحمد لله رب العالمين ،والصلة والسلم على رسول الله ،وعلى آله
وصحبه ومن واله إلى يوم الدين .وبعد:
فهذه جملة قواعد ومسائل مـسـتفادة من كلم أهل العلم في موضوع
العبودية لله -تعالى -فإن جميع الرسل -عليهم اللة والسلم -من أولهم
دوا
عبــ ُ إلى آخرهم دعوا إلى عبادة الله -تعالى -وحده ل شريك له)) :ا ْ
ه(( ]العراف [59 :كما أن الله -عز وجل -قد ن إل َهٍ غ َي ُْر ُ م ْ كم ّ ما َلــ ُ ه َ الل ّ َ
جعل العبودية وصفا ً لكمل خلقه وأقربهم إليه وهم النبياء والملئكة فقال -
نقّرُبو َ م َ ملئ ِك َ ُ
ة ال ُ ن ع َْبدا ً ل ّل ّهِ َول ال َ كو َ ح َأن ي َ ُ سي ُ م ِ ف ال َ سَتنك ِ َ سبحانهَ)) :لن ي َ ْ
ميعًا(( ]النساء: م إل َي ْهِ َ
ج ِ شُرهُ ْ ح ُ سي َ ْست َك ْب ِْر فَ َ
عَباد َت ِهِ وَي َ ْ
ن ِ ف عَ ْ سَتنك ِ ْ من ي َ ْ وَ َ
.[172
ووصف الله -تعالى -أكرم خلقه عليه وأعلهم عنده منزلة -بالعبودية في
ن ع ََلى ع َب ْد ِ ِ
ه فْرَقا َ ل ال ُ ذي ن َّز َ ك ال َ ِ أشرف مقاماته ،فقال -تعالى)) :ت ََباَر َ
ذي ن ال َ ِ حا َسب ْ َذيرًا(( ]الفرقان ،[1 :وقال -سبحانهُ )) : ن نَ ِ مي َ ن ل ِل َْعال َ ِكو َ ل ِي َ ُ
َ َ
حوْل َ ُ
ه ذي َباَرك َْنا َ صا ال َ ِجد ِ القْ َ س ِم ْ حَرام ِ إَلى ال َ جد ِ ال َ س ِ م ْ ن ال َ م َ سَرى ب ِعَب ْد ِهِ ل َي ْل ً ّ أ ْ
صيُر(( ]السراء.[1 : ميعُ الب َ ِ س ِ ه هُوَ ال ّ ن آَيات َِنا إن ّ ُ م ْ ه ِ ل ِن ُرِي َ ُ
وجعل النبي -صلى الله عليه وسلم -إحسان العبودية أعلى مراتب الدين،
وهو الحسان ،فقال في حديث جبريل -وقد سأله عن الحسان) :أن تعبد
الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك( أخرجه مسلم.1
يمكن أن نخلص -من خلل هذه المقدمة -إلى قاعدة ،وهي :أن كمال
المخلوق في تحقيق عبوديته لله -تعالى ،-فأكرم ما يكون العبد عند الله -
تعالى -عندما يكون أعظم عبادة وخضوعا ً لله -عز وجل.
يقول شيخ السلم ابن تيمية -رحمه الله) :كمال المخلوق في تحقيق
عبوديته لله -تعالى ،-وكلما ازداد العبد تحقيقا ً للعبودية ازداد كماله وعلت
درجته(.2
ويقول في موضع آخر) :والعبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقارا ً إليه
وخضوعا ً له ،كان أقرب إليه ،وأعّز له ،وأعظم لقدره ،فأسعد الخلق:
ج إلى من شئت تكن أعظمهم عبودية لله ،وأما المخلوق فكما قيل :احت ْ
أسيره ،واستغن عمن شئت تكن نظيره ،وأحسن إلى من شئت تكن
أميره .فأعظم ما يكون العبد قدرا ً وحرمة عند الخلق إذا لم يحتج إليهم
بوجه من الوجوه ،فإن أحسنت إليهم مع الستغناء عنهم ،كنت أعظم ما
يكون عندهم ،ومتى احتجت إليهم -ولو في شربة ماء -نقص قدرك
عندهـم بقدر حاجتك إليهم ،وهذا من حكمة الله ورحمته ،ليكون الدين كله
لله ول ُيشَرك به شيء(.3
وها هنا قاعدة أخرى ،وهي أن حاجة النسان وضرورته إلى عبادة الله -
تعالى -فوق كل حاجة وضرورة.
انظر :العبودية لبن تيمية ،ص 40ـ ،43ومدارج السالكين 1/101ـ .103 1
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ /د .عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف
www.alabdullatif.islamlight.net
عبودية الشهوات
يقول ابن تيمية -في هذا الصدد) :اعلم أن فقر العبد إلى الله أن يعبد الله
ل يشرك به شيئًا ،ليس له نظير فيقاس به ،لكن يشبه من بعض الوجوه
حاجة الجسد إلى الطعام والشراب ،وبينهما فروق كثيرة.
فإن حقيقة العبد قلبه وروحه ،وهي ل صلح لها إل بإلهها ،الله الذي ل إله
إل هو فل تطمئن في الدنيا إل بذكره ،وهي كادحة إليه كدحا ً فملقيته ،ول
بد لها من لقائه ،ول صلح لها إل بلقائه.
ذات أو سرور بغير الله فل يدوم ذلك ،بل ينتقل من نوع ولو حصل للعبد ل ّ
إلى نوع ،ومن شخص إلى شخص ،وتارة أخرى يكون ذلك الذي يتنعم به
والتذ به غير منعم له ول ملتذ به ،بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنه،
ويضره ذلك .وأما إلهه فل بد له منه في كل حال وكل وقت ،وأينما كان
فهو معه.4(...
ويقول ابن القيم -مقررا ً تلك الحاجة) :اعلم أن حاجة العبد إلى أن يعبد
الله وحده ل يشرك به شيئا ً في محبته ،ول في خوفه ،ول في رجائه ،ول
في التوكل عليه ،ول في العمل له ،ول في الحلف به ،ول في النذر له ،ول
في الخضوع له ،ول في التذلل والتعظيم ،والسجود والتقرب ،أعظم من
حاجة الجسد إلى روحه ،والعين إلى نورها ،بل ليس لهذه الحاجة نظير
تقاس به؛ فإن حقيقة القلب روحه وقلبه ،ول صلح لها إل بإلهها الذي ل إله
إل هو ،فل تطمئن في الدنيا إل بذكره ..ول صلح لها إل بمحبتها وعبوديتها
له ،ورضاه وإكرامه لها(.5
ة :من الذ ّ
ل ،يقال :بعير معّبد ،أي وأما عن تعريف العبادة ،فالعبادة لغ ً
مذلل.
وعت أقوال العلماء في تعريف العبادة: وقد تن ّ
فقال ابن جرير) :معنى العبادة الخضوع لله بالطاعة ،والتذلل له
7 6
سر ابن عباس -رضي الله عنهما -العبادة بالتوحيد . بالستكانة( ،وف ّ
وقال القاضي أبو يعلى) :حقيقة العبادة هي الفعال الواقعة لله -عز وجل
-على نهاية ما يمكن من التذلل والخضوع المتجاوز لتذلل بعض العباد(.8
وقال شيخ السلم ابن تيمية) :العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله
ويرضاه من القوال والعمال الظاهرة والباطنة(.9
صل ابن القيم التعريف السابق بقوله) :وبنى )إياك نعبد( على أربع وف ّ
قواعد :التحقق بما يحبه الله ورسوله ويرضاه من قول اللسان والقلب،
وعمل القلب والجوارح .فالعبودية اسم جامع لهذه المراتب الربع،
فأصحاب )إياك نعبد( حقا ً هم أصحابها ،فقول القلب :هو اعتقاد ما أخبر
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ /د .عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف
www.alabdullatif.islamlight.net
عبودية الشهوات
الله -سبحانه -به عن نفسه ،وعن أسمائه وصفاته وأفعاله وملئكته ولقائه
على لسان رسله.
ب عنه وتبين بطلن وقول اللسان :الخبار عنه بذلك ،والدعوة إليه والذ ّ
البدع المخالفة له ،والقيام بذكر وتبليغ أوامره.
وعمل القلب :كالمحبة له ،والتوكل عليه ،والنابة إليه ،والخوف منه،
والرجاء له ،وإخلص الدين له ،والصبر على أوامره ،وعن نواهيه ،وعلى
أقداره ،وغير ذلك من أعمال القلوب.
وأعمال الجوارح :كالصلة والجهاد ،ومساعدة العاجز والحسان إلى الخلق،
ونحو ذلك(.10
طراد عرفي ول اقتضاء وقال بعضهم) :العبادة ما أمر به شرعا ً من غير ا ّ
عقلي(.11
وبالنظر إلى هذه التعريفات المتعددة نرى أن الخلف بينها يكاد أن يكون
من خلف التنوع؛ وذلك أن العبادة قائمة على أصلين كبيرين ،وهما :غاية
ب وكماله .فعّرف ابن جرير وأبو يعلى العبادة الخضوع وكماله ،وغاية الح ّ
بالخضوع -والسلف قد يعّرفون الشيء ببعض أفراده -ومرادهم بالخضوع
-ها هنا -ما كان مقترنا ً بالمحبة والتعظيم كما هو ظاهر عبارة أبي يعلى
في قوله) :نهاية ما يمكن من التذلل والخضوع( فنهاية الخضوع وكماله ل
تتحقق إل بالمحبة والتعظيم.
وأما ابن تيمية وابن القيم فقد عّرفا العبادة بما يحبه الله ويرضاه باعتبار
ب ..ولذا يقول ابن تيمية) :فأصل المحبة أن العبادة هي أعلى مراتب الح ّ
خلقَ لجلها ،هي ما في عبادته وحده ل المحمودة التي أمر الله بها ،و َ
12
شريك له؛ إذ العبادة متضمنة لغاية الحب بغاية الذل( .
وأما تعريف ابن عباس -رضي الله عنهما -للعبادة بالتوحيد ،فهو اعتبار
العبادة المقبولة ،فل تقبل العبادة عند الله -تعالى -إل بتحقيق التوحيد،
وأما العبادة من حيث هي فهي أعم من كونها توحيدا ً عاما ً مطلقًا ،فكل
موحد عابد لله -تعالى ،-وليس كل من عبد الله -تعالى -يكون موحدا ً.13
طراد عرفي ول اقتضاء وأما من عّرف العبادة بما أمر به شرعا ً من غير ا ّ
عقلي ،فهو باعتبار أن الشرع هو مورد العبادة وضابطها ،فل تخضع العبادة
لطراد العرف ،بل قد تكون مضادة لعوائد وأعراف ،كما أن العبادة ل
تخضع لقتضاء العقل واستحسانه؛ فمن العبادات الشرعية ما تكون محّيرة
للعقول .14والله أعلم.
مجموعة التوحيد )رسالة في تعريف العبادة لبي بطين( ،ص .400 11
قاعدة في المحبة )ضمن جامع الرسائل( ،2/196 ،وانظر مدارج السالكين.3/28 ، 12
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ /د .عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف
www.alabdullatif.islamlight.net
عبودية الشهوات
ب
ب الخلي عن ذل ،والذل الخلي عن ح ّ ومن قواعد هذا الموضوع :أن الح ّ
ب وغايته ،وكمال ل يكون عبادة؛ فالعبادة ما يجمع كمال المرين :كمال الح ّ
ل وغايته. الذ ّ
يقول ابن تيمية) :من خضع لنسان مع بغضه له ل يكون عابدا ً له ،ولو أح ّ
ب
ب الرجل ولده وصديقه، شيئا ً ولم يخضع له لم يكن عابدا ً له ،كما قد يح ّ
ولهذا ل يكفي أحدهما في عبادة الله -تعالى ،-بل يجب أن يكون الله
ب إلى العبد من كل شيء ،وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء، أح ّ
15
بل ل يستحق المحبة والخضوع التام إل الله( .
ويقول ابن القّيم) :والعبادة تجمع أصلين :غاية الحب بغاية الذل والخضوع؛
فمن أحببته ولم تكن خاضعا ً له ،لم تكن عابدا ً له ،ومن خضعت له بل
محبة ،لم تكن عابدا ً له ،حتى تكون محبا ً خاضعًا( .16
ومن القواعد أيضًا :كل من استكبر عن عبادة الله -تعالى ،-فل بد أن يعبد
غيره.
يقرر ابن تيمية ذلك بقوله) :الستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم
استكبارا ً عن عبادة الله ،كان أعظم إشراكا ً بالله؛ لنه كلما استكبر عن
عبادة الله -تعالى ،-ازداد فقرا ً وحاجة إلى المراد المحبوب الذي هو
المقصود(.
فل بد لكل عبد من مراد محبوب هو منتهى حبه وإرادته ،فمن لم يكن الله
معبوده ومنتهى حبه من إرادته ،بل استكبر عن ذلك ،فل بد أن يكون له
مراد محبوب يستعبده غير الله ،فيكون عبدا ً لذلك المراد المحبوب :إما
المال ،وإما الجاه ،وإما الصور ،وإما ما يتخذه إلها ً من دون الله(.17
ويقول -صلى الله عليه وسلم -في موضع آخر ) :وهكذا أهل البدع ل تجد
أحدا ً ترك بعض السنة التي يجب التصديق بها والعمل إل وقع في بدعة ،ول
تجد صاحب بدعة إل ترك شيئا ً من السنة ،كما جاء في الحديث) :ما ابتدع
قوم بدعة إل تركوا من السنة مثلها( 18رواه المام أحمد.
َ
داوَةَ م العَ َما ذ ُك ُّروا ب ِهِ فَأغ َْري َْنا ب َي ْن َهُ ُ حظا ً ّ
م ّ سوا َ وقد قال -تعالى)) :فَن َ ُ
ضاَء(( ]المائدة ،[14 :فلما تركوا حظا ً مما ذكروا به اعتاضوا بغيره، َوال ْب َغْ َ
منكم ّ ما ُأنزِ َ
ل إل َي ْ ُ فوقعت بينهم العداوة والبغضاء ،وقال تعالى)) :ات ّب ُِعوا َ
َ
ن(( ]العراف [3 :فأمر باتباع ما ت َذ َك ُّرو َ
دون ِهِ أوْل َِياَء قَِليل ً ّ
من ُ م َول ت َت ّب ُِعوا ِ ّرب ّك ُ ْ
ما أنزل ،ونهى عما يضاد ذلك وهو اتباع أولياء من دونه ،فمن لم يتبع
أحدهما اتبع الخر.
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ /د .عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف
www.alabdullatif.islamlight.net
عبودية الشهوات
وكذلك من لم يفعل المأمور ،فعل بعض المحظور ،ومن فعل المحظور ،لم
يفعل جميع المأمور ،فل يمكن لنسان أن يفعل جميع ما أمر به مع فعله
لبعض ما حظر ،ول يمكنه ترك كل ما حظر مع تركه لبعض ما أمر(.19
ويقول ابن القيم -رحمه الله ) :كل من أعرض عن شيء من الحق
وجحده ،وقع في باطل مقابل لما أعرض عنه من الحق وجحده ول بد،
حتى في العمال ،فمن رغب عن العمل لوجه الله وحده ابتله الله بالعمل
لوجوه الخلق ،فرغب عن العمل لمن ضّره ونفعه وموته وحياته وسعادته
بيده ،فابتلي بالعمل لمن ل يملك له شيئا ً من ذلك ،وكذلك من رغب عن
إنفاق ماله في طاعة الله ابتلي بإنفاقه لغير الله وهو راغم ،وكذلك من
د ،وكذلك من رغب رغب عن التعب لله ابتلي بالتعب في خدمة الخلق ول ب ّ
20
عن الهدى بالوحي ،ابتلي بكناسة الراء وزبالة الذهان ووسخ الفكار( .
ل) :لما كان منلمة عبد الرحمن السعدي هذه القاعدة قائ ً ويؤكد الع ّ
العوائد القدسية والحكمة اللهية أن من ترك ما ينفعه وأمكن النتفاع به
ولم ينتفع ،ابتلي بالشتغال بما يضره ،فمن ترك عبادة الرحمن ،ابتلي
بعبادة الوثان ،ومن ترك محبة الله وخوفه ورجاءه ،ابتلي بمحبة غير الله
وخوفه ورجائه ،ومن لم ينفق ماله في طاعة الله أنفقه في طاعة
ل لربه ،ابتلي بالذل للعبيد ،ومن ترك الحق ابتلي الشيطان ،ومن ترك الذ ّ
بالباطل(.21
ومن أجل مسائل هذا الموضوع :العبودية الباطنة والقيام بعبودية القلب؛
فإن أعمال القلب أفرض على العبد من أعمال الجوارح ،وعبودية القلب
أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم ،فهي واجبة في كل وقت.22
وقد غفل الكثير من المسلمين عن فقه هذه العبادات وتحقيقها ،وكان
لشتغالهم بالرسوم والمظاهر ،وتأثرهم بالنزعة الرجائية الكلمية أبلغ الثر
في إهمال أعمال القلوب وعبوديتها ،فما أكثر من اسُتعبد قلبه لغير الله -
ب المال ،وطائفة صار تعالى -من الشهوات والملذات ،فطائفة أشربت ح ّ
همها وشغلها المنصب والوظيفة والرياسة ،وطائفة ثالثة تعلقت قلوبها
بالنساء ،وطائفة أخرى صار مقصودها سفاسف المور من مطعوم أو
ملبوس أو مركوب ،أو )كرة( أو عبث ولهو ،أو )فن(....
مه ومقصوده المال ،فل فعبد المال قد صار الدرهم والدينار هجّيراه؛ فه ّ
يصبح ول يمسي إل وهمه المال ،فمن أجله يوالي ويعادي ،فإن أعطي
رضي ،وإن منع سخط.
لقد تحدث علماء السلف -رحمهم الله -عن عبودية القلب ،فكان حديثا ً
عن علم وبصيرة وذوق وتحقيق.
19مجموع الفتاوى )اليمان( 174 ،7/173؛ باختصار .وانظر اقتضاء الصراط المستقيم،
،2/617ومجموع الفتاوى.29/329 ،
20مدارج السالكين ،1/165 ،وانظر الفوائد ،ص .27
21تفسير السعدي.1/18 ،
22انظر بدائع الفوائد لبن القيم.3/230 ،
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ /د .عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف
www.alabdullatif.islamlight.net
عبودية الشهوات
طره يراع شيخ السلم ابن تيمية إذ يقول) :إذا كان القلب ومن ذلك ما س ّ
-الذي هو ملك الجسم -رقيقا ً مستعبدًا ،متيما ً لغير الله ،فهذا هو الذل
سر المحض ،والعبودية الذليلة لما استعبد القلب. وال ْ
وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب ..فمن
اسُتعبد قلبه فصار عبدا ً لغير الله ،فهذا يضره ذلك ،ولو كان في الظاهر
ملك الناس.
فالحرية حرية القلب ،والعبودية عبودية القلب ،كما أن الغنى غنى النفس،
قال النبي) :ليس الغنى عن كثرة العرض ،وإنما الغنى غنى النفس( أخرجه
الشيخان.
وهذا لعمر الله إذا كان قد استعبد قلبه صورة مباحة ،فأما من استعبد قلبه
صورة محرمة :امرأة ،أو صبي؛ فهذا هو العذاب الذي ل يدانيه عذاب(.23
ويقرر ابن القيم هذه العبودية بقوله) :النابة هي عكوف القلب على الله -
عز وجل ،-كاعتكاف البدن في المسجد ل يفارقه ،وحقيقة ذلك عكوف
القلب على محبته وذكره بالجلل والتعظيم ،وعكوف الجوارح على طاعته
بالخلص له والمتابعة لرسوله ،ومن لم يعكف قلبه على الله وحده عكف
ماِثي ُ
ل ما هَذ ِهِ الت ّ َ
على التماثيل المتنوعة ،كما قال إمام الحنفاء لقومهَ )) :
م ل ََها َ َ
ن(( ]النبياء [52 :فاقتسم هو وقومه حقيقة العكوف، فو َ
عاك ِ ُ ال َِتي أنت ُ ْ
بفكان حظ قومه العكوف على التماثيل ،وكان حظه العكوف على الر ّ
الجليل .والتماثيل جمع تمثال ،وهي الصور الممثلة ،فتعلق القلب بغير الله
واشتغاله به والركون إليه عكوف منه على التماثيل التي قامت بقلبه ،وهو
نظير العكوف على تماثيل الصنام ،ولهذا كان شرك عباد الصنام بالعكوف
بقلوبهم وهمهم وإراداتهم على تماثيلهم ،فإذا كان في القلب تماثيل قد
ملكته واستعبدته بحيث يكون عاكفا ً عليها فهو نظير عكوف الصنام عليها،
ولهذا سماه النبي -صلى الله عليه وسلم -عبدا ً لها ،ودعا عليه بالتعس
والنكس ،فقال) :تعس عبد الدينار ،تعس عبد الدرهم .تعس وانتكس ،وإذا
شيك فل انتقش .2524
وبسط ابن القيم الحديث عن أرباب عبودية القلب وأحوالهم فكان مما
قال) :وجملة أمرهم أنهم قوم قد امتلت قلوبهم من معرفة الله ،وغمرت
بمحبته وخشيته وإجلله ومراقبته ،فسَرت المحبة في أجزائهم فلم يبق
ب ،قد أنساهم حّبه ذكر غيره، فيها عرق ول مفصل إل وقد دخله الح ّ
ب من سواه ،وبذكره وأوحشهم أنسهم به ممن سواه ،فدنفوا بحبه عن ح ّ
عن ذكر من سواه ،وبخوفه ورجائه والرغبة إليه والرهبة منه ،والتوكل عليه
والنابة إليه ،والسكون إليه والتذلل والنكسار بين يديه عن تعلق ذلك منهم
العبودية ،ص ،97 ،96باختصار يسير .وانظر ،ص .108 23
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ /د .عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف
www.alabdullatif.islamlight.net
عبودية الشهوات
كد ابن تيمية هذا المعنى في غير موضع؛ فكان مما قاله) :العبد وقد أ ّ
مجبول على أن يقصد شيئا ً ويريده ،ويستعين بشيء ويعتمد عليه في
تحصيل مراده؛ وهذا أمر حتم لزم ضروري في حق كل إنسان(.
فإذا تدبر النسان حال نفسه وحال جميع الناس ،وجدهم ل ينفكون عن
هذين المرين :ل بد للنفس من شيء تطمئن إليه وتنتهي إليه محبتها ،وهو
إلهها ،ول بد لها من شيء تثق به وتعتمد عليه في نيل مطلوبها هو
مستعانها ،سواءا ً كان ذلك هو الله أو غيره ،وإذا كان فقد يكون عاما ً وهو
الكفر ،كمن عبد غير الله مطلقًا ،وسأل غير الله مطلقًا ..وقد يكون خاصا ً
ب شخص ،أو حب ب المال ،أو ح ّفي المسلمين مثل من غلب عليه ح ّ
الرياسة حتى صار عبد ذلك.31
ونختم هذه المقالة بمسألة جليلة :وهي أن فقه أسماء الله -تعالى -
وصفاته ،والتعّبد لله -عز وجل -بها من أعظم أسباب تحقيق عبودية الله -
تعالى.
يقول العز بن عبد السلم) :فهم معاني أسماء الله -تعالى -وسيلة إلى
معاملته بثمراتها من الخوف والرجاء والمهابة والمحبة والتوكل وغير ذلك
من ثمرات معرفة الصفات(.32
ي ابن القيم -رحمه الله -بتقرير هذه المسألة في أكثر من كتاب، وع ُن ِ َ
ة هي من موجباتها ومقتضـيـاتـها، ومن ذلك قوله) :لكل صفة عبودية خاص ٌ
مطرِد ٌ في جميعّ أعني :من موجبات العلم بها والتحقيق بمعرفتها؛ وهذا ُ
ب بالضر أنواع العبودية التي على القلب والجوارح؛ فعلم العبد بتفرد الر ّ
والنفع والعطاء والمنع ،والخلــق والرزق والحياء والماتة يثمر له عبودية
التوكل عليه باطنًا ،ولوازم التوكل وثمراته ظاهرًا ،وعلمه بسمعه -تعالى -
وبصره وعلمه أنه ل يخفى عليه مثقال ذرة ،وأنه يعلم السّر ويـعـلـم
خــائـنــة العين وما تخفي الصدور يثمر له حفظ لسانه وجوارحه
وخطرات قلبه عن كل ما ل يرضــي الله ..ومعرفته بجلل الله وعظمته
وعزه تثمر له الخضوع والستكانة والمحبة ...فرجعـت العبودية كلها إلى
مقتضى السماء والصفات(.33
ويؤكد الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله -هذه المسألة بقوله:
)وأما توحيد الصفات ،فل يستقيم توحيد الربوبية ول توحيد اللوهية إل
بالقرار بالصفات(.34
بل ويثبت الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن أصول العبادة الثلثة) :الحب،
والرجاء ،والخوف( من ثمرات ولوازم التعبد بأسماء الله -تعالى -وصفاته،
فيقول) :أركان الدين :الحب ،والرجاء ،والخوف؛ فالحب في الولى :وهي
شجرة المعارف والحوال ،ص ،17وانظر الفوائد ،ص 63ـ .64 31
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ /د .عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف
www.alabdullatif.islamlight.net
عبودية الشهوات
)الحمد لله رب العالمين( ،والرجاء في الثانية :وهي )الرحمن الرحيم(،
والخوف في الثالثة :وهي )مالك يوم الدين(.35
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعيننا وسائر إخواننا على ذكره
وشكره وحسن عبادته
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ /د .عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف
www.alabdullatif.islamlight.net